الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالذي لا ريب فيه أن السلطان عبد الحميد -مثله مثل السلاطين العثمانيين من قبله- كانوا يميلون إلى المشرب الصوفي في التدين! بغض النظر عن اسم الطريقة المتبعة، هل كانت: النقشبندية، أو الشاذلية، أو الرفاعية، أو البكتاشية. فهذا قد يختلف من عصر إلى عصر، لكن الجامع بينهم جميعا - ولا سيما المتأخرين منهم- هو التصوف!
ومما هو معروف عن السلطان عبد الحميد أنه اجتهد في جمع الطرق الصوفية على دعم فكرة الجامعة الإسلامية التي كان ينادي بها.
وعلى أية حال، فالذي لا يخطئه النظر أن الفكر الصوفي المنحرف، كان أحد أهم أسباب سقوط الخلافة العثمانية.
قال الشيخ سليمان الخراشي في رسالة: (كيف سقطت الدولة العثمانية ص 6): من تأمل تاريخ العثمانيين، يدرك أن السبب الرئيسي لسقوطهم هو ابتعادهم تدريجيا عن العقيدة السلفية الصافية، التي جاء بها الكتاب والسنة، واستبدالها بعقائد الخرافيين والقبوريين من حاملي لواء التصوف .. اهـ.
وقال الدكتور الصلابي في كتابه: (الدولة العثمانية: عوامل النهوض، وأسباب السقوط): تلقى عبد الحميد تعليماً منتظماً في القصر السلطاني على أيدي نخبة مختارة من أشهر رجالات زمنه علماً وخلقاً. وقد تعلم من اللغات العربية والفارسية، ودرس التاريخ وأحب الأدب، وتعمق في علم التصوف .. اهـ.
وقال: لقد نجح السلطان عبد الحميد الثاني في جمع الطرق الصوفية، إلا أنه فضل السكوت عن كثير من انحرافاتها العقدية، بحيث أن الطرق الصوفية في تلك المرحلة انحرفت عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا ما رحم الله؛ ولذلك أضعفت الأمة، وساهمت في سقوط الخلافة الاسلامية العثمانية السنية. اهـ.
وقد تناول بالتفصيل أسباب سقوط الخلافة العثمانية في آخر كتابه، وذكر خلال ذلك:
- ثالثاً: انتشار مظاهر الشرك والبدع والخرافات.
- رابعاً: الصوفية المنحرفة.
وقال تحت هذا السبب: إن أعظم انحراف وقع في تاريخ الأمة الإسلامية، ظهور الصوفية المنحرفة كقوة منظمة في المجتمع الإسلامي، تحمل عقائد وأفكارا، وعبادات بعيدة عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قوي عود الصوفية المنحرفة، واشتدت شوكتها في أواخر العصر العثماني بسبب عوامل متعددة.
فذكر بعض هذه العوامل، فكان رابعها: حب الأتراك العثمانيين للدروشة والتصوف. ونقل هذه العبارات:
"لقد كانت الصوفية قد أخذت تنتشر في المجتمع العباسي، ولكنها كانت ركناً منعزلاً عن المجتمع، أما في ظل الدولة العثمانية، وفي تركيا بالذات، فقد صارت هي المجتمع وصارت هي الدين، وانتشرت -في القرنين الأخيرين بصفة خاصة- تلك القولة العجيبة: من لا شيخ له، فشيخه الشيطان! وأصبحت -بالنسبة للعامة بصورة عامة- هي مدخلهم إلى الدين، وهي مجال ممارستهم للدين".
"لقد كانت مفاهيم التصوف المنحرف تنخر في كيان الدولة العثمانية، وكان العالم الصليبي ينطلق في مجالات العلم وميادين المعرفة آخذاً بأسباب القوة والتقدم والرقي، ويدير المؤامرات والدسائس لتفتيت الدولة العثمانية، ومن ثم الهيمنة على العالم الإسلامي".
"ودخل في عالم التصوف المنحرف تقديس الأشخاص الأموات منهم، والأحياء، ونسبوا إليهم خوارق العادات والكرامات، وعاشوا في الأوهام، وعالم الخيال، وأصيب الناس بالوهن والعجز والانحطاط، واتسعت هوة التخلف والسقوط، وكانت أوربا الصليبية تواصل صعودها في سلم الحضارة المادية، وتعد جيوشها للزحف على العالم الإسلامي الغارق أهله في دنيا الخرافات والأوهام، والاتكال على الخوارق والكرامات". انتهى.
ولا يعني هذا أن الخلافة العثمانية كانت عارية عن الفضائل، أو خالية من المناقب، بل قد حفظ الله بها حوزة الإسلام، وبيضة المسلمين لقرون متطاولة، وفتح بها من البلاد ما يعظم في الوصف، ولكن المراد هو تقرير الواقع، وبيان حقيقة التاريخ؛ ليتميز الصواب من الخطأ، والنافع من الضار، وندرك شيئا من سنن الله تعالى في خلقه.
ونقول كما قال الشيخ سليمان الخراشي في رسالته المشار إليها سابقا: أنا لا أقول هذا تشمتا بهذه الدولة التي كانت دولة عسكرية قوية في قلب أوربا، وكانت شجى في حلوق الصليبيين، وإنما أقوله لكي نأخذ العبرة منه، فنعلم أن سنن الله جارية في الدول والأفراد، وأنه لا نصر لنا ولا عز لدولنا إلا بإقامة أحكام الإسلام كاملة، كما كانت في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، دون اتباع لهوى، أو بدعة أو شركيات ما أنزل الله بها من سلطان. اهـ. وراجع للفائدة، الفتوى رقم: 249382.
والله أعلم.