الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالذي نراه أن هذا القول ضعيف جدا، ولم يستند القائلون به من المعاصرين على حجة قوية، ولا دعموا رأيهم هذا بنقل من كتاب أو سنة، ولا نقلوه عن أحد من العلماء المعتبرين، ولا أصحاب المذاهب المتبوعة المعتبرة، ومن المعلوم أن المنافع لم تزل يتداولها الناس، وتجري بينهم العقود عليها، ولم يقل أحد قط بجواز دفع الزكاة منفعة بحسب اطلاعنا، والحنفية الذين يتوسعون في مسألة إخراج القيمة، نصوا على عدم جواز إخراج المنفعة عن الزكاة.
قال ابن نجيم الحنفي -رحمه الله- في البحر الرائق: وَالْمَالُ -كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَهْلُ الْأُصُولِ-: مَا يُتَمَوَّلُ وَيُدَّخَرُ لِلْحَاجَةِ، وَهُوَ خَاصٌّ بِالْأَعْيَانِ، فَخَرَجَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ.
قَالَ فِي الْكَشْفِ الْكَبِيرِ فِي بَحْثِ الْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ: الزَّكَاةُ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِتَمْلِيكِ عَيْنٍ مُتَقَوِّمَةٍ، حَتَّى لَوْ أَسْكَنَ الْفَقِيرَ دَارَهُ سَنَةً، بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ، لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَيْسَتْ بِعَيْنٍ مُتَقَوِّمَةٍ. اهـ.
وَهَذَا عَلَى إحْدَى الطَّرِيقَتَيْنِ، وَأَمَّا عَلَى الْأُخْرَى مِنْ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ مَالٌ، فَهُوَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مُنْصَرِفٌ إلَى الْعَيْنِ، وَقُيِّدَ بِالتَّمْلِيكِ احْتِرَازًا عَنْ الْإِبَاحَةِ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ الْوَلْوَالِجِيُّ وَغَيْرُهُ، أَنَّهُ لَوْ عَالَ يَتِيمًا فَجَعَلَ يَكْسُوهُ وَيُطْعِمُهُ، وَجَعَلَهُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ، فَالْكِسْوَةُ تَجُوزُ؛ لِوُجُودِ رُكْنِهِ، وَهُوَ التَّمْلِيكُ، وَأَمَّا الْإِطْعَامُ إنْ دَفَعَ الطَّعَامَ إلَيْهِ بِيَدِهِ يَجُوزُ أَيْضًا لِهَذِهِ الْعِلَّةِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ، وَيَأْكُلْ الْيَتِيمُ لَمْ يَجُزْ؛ لِانْعِدَامِ الرُّكْنِ، وَهُوَ التمليك. انتهى.
وأما الجمهور فيمنعون القيمة أصلا، فمنع المنفعة عندهم أولى وأحرى، وإذا كان عامة العلماء على عدم جواز إبراء الغارم من دينه بنية الزكاة، وعللوا ذلك بأن الزكاة إيتاء وهذا إبراء، فاشتراط الإيتاء في الزكاة، منع عند الجماهير من هذه الصورة، فكيف يجوز دفع الزكاة إليه على شكل منفعة! وإذا كان الجمهور خلافا للحنفية، يمنعون من إخراج القيمة في الزكاة، ويوجبونها في جنس المال المزكى، فكيف يجوز إخراجها على الصفة المذكورة؟ والحنفية أنفسهم الذين جوزوا القيمة، نصوا على امتناع هذه الصورة في الإخراج؛ لانعدام التمليك كما رأيت كلامهم.
فالذي نراه هو الاقتصار على ما قرره الفقهاء، وعرض أقوالهم فحسب، دون إحداث قول لم يقولوا به، فالزكاة تجب في جنس المال، هذا هو الأصل، ويجوز إخراج قيمتها عند الحنفية، ويقيد ذلك شيخ الإسلام بالمصلحة، أو ما إذا اختار ذلك الفقير. وأما ما عدا ذلك من صور الإخراج التي لم ينص عليها الفقهاء، ولم يذكروا جوازها، فنرى أنها غير جائزة، بل نرى أن القول بجوازها شذوذ لا يلتفت إليه.
والله أعلم.