الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد روى البخاري ومسلم, وغيرهما من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا، وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا، فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة.
وفي رواية لمسلم: ما من نفس تموت، لها عند الله خير، يسرها أنها ترجع إلى الدنيا، ولا أن لها الدنيا وما فيها، إلا الشهيد، فإنه يتمنى أن يرجع، فيقتل في الدنيا لما يرى من فضل الشهادة.
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: وقد ورد بلفظ التمني، وذلك فيما أخرجه النسائي والحاكم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول الله تعالى: يا بن آدم؛ كيف وجدت منزلك؟ فيقول: أي رب؛ خير منزل، فيقول: سل وتمنه، فيقول: ما أسألك وأتمنى أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرات لما رأى من فضل الشهادة... الحديث. ولمسلم من حديث ابن مسعود رفعه في الشهداء قال: فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى. انتهى
وقال أيضا: قال المهلب: إنما أورد حديث أنس هذا ليبين المعنى الذي من أجله يتمنى الشهيد أن يرجع إلى الدنيا ليقتل مرة أخرى في سبيل الله؛ لكونه يرى من الكرامة بالشهادة فوق ما في نفسه. انتهى
وقال ابن بطال في شرح صحيح البخاري: وإنما يتمنى أن يقتل عشر مرات -والله أعلم- لعلمه بأن ذلك مما يرضي الله ويقرب منه؛ لأن من بذل نفسه ودمه في إعزاز دين الله ونصرة دينه ونبيه، فلم تبق غاية وراء ذلك، وليس في أعمال البر ما تبذل فيه النفس غير الجهاد، فلذلك عظم الثواب عليه. انتهى.
فالحكمة إذاً من تمني الشهيد أن يعود للدنيا, ثم يقتل في سبيل الله مرارا، لما يراه في الجنة من فضل الشهادة, وما أعدّه الله تعالى من الكرامة للشهداء في سبيله, وأن الشهادة في سبيل الله هي غاية أعمال البر, وأفضلها.
والله أعلم.