الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن لحديث أبي هريرة مرفوعا: منعت العراق درهمها وقفيزها .. علاقة بأثر جابر بن عبد الله: يوشك أهل العراق أن لا يجبى إليهم قفيز ولا درهم.
وقد درج كثير من العلماء من المحدثين وشراح الحديث والمؤرخين، على التبويب عليهما في باب واحد، أو إيراد هذا الأثر في شرح ذاك الحديث.
وممن صرح باتحادهما في المعنى: القاضي عياض، حيث قال في (إكمال المعلم): قوله: "يوشك أهل العراق ألا يجبى إليهم قفيز ولا درهم" هو مثل قوله: "منعت العراق درهمها" الحديث، وقد فسره في الحديث أن معناه: منعها الجزية والخراج؛ لغلبة العجم والروم على البلاد. اهـ.
وللوقوف على بيان ذلك وتفاصيله المتعلقة بجواب بقية السؤال، يمكنك الرجوع لكتاب الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان: (العراق في أحاديث وآثار الفتن) وتجد في آخره دراسة تأصيلية لظاهرة إسقاط الفتن على الوقائع، وتقويم الدراسات الحديثة التي خاضت في ذلك، وبيان مزالقها وانحرافاتها. وفيه فصل كامل عن حديث: منعت العراق. (من 1 / 187 إلى 279).
ومما قال فيه: من الجدير بالذكر أن المراد ببعض الآثار السابقة ما حصل زمن (التتار) و (المغول)، عندما خرجوا إلى (العراق) و (الشام) و (مصر)، وعاثوا فيها الفساد، وصبوا على أهلها العذاب. اهـ.
وقال: ويعجبني صنيع ابن كثير؛ إذ وضع هذا الحديث وغيره تحت عنوان: (ذكر أنواع من الفتن وقعت وستكثر وتتفاقم في آخر الزمان) وإنْ حمل بعض العلماء هذا الحديث على حوادث مضت، فإنّ وقوعه هذه الأيام على وجهٍ أظهر وأشد؛ لقرائن وأمارات كثيرة .. اهـ.
وقال: المتمعن في الكلام السابق يجد أن القائلين بأن الأمر قد ظهر تتفاوت أزمانهم، فأولهم الخطابي، وهو من وفيات سنة 388هـ، ثم ابن حزم، وهو من وفيات سنة 456هـ، مروراً بالنووي، وهو من وفيات سنة 676هـ، ثم السيوطي، وهو من وفيات سنة 911هـ، ثم البُجُمْعَوي، وهو من وفيات سنة 1306هـ، ومثله صديق حسن خان، وهو من وفيات سنة 1307هـ، فهؤلاء على تفاوت سنيّ وفياتهم، كل منهم يقول: إن هذا المنع حصل في زمانه، وهذا يؤكد مقولة ابن كثير: «وقعت، وستكثر وتتفاقم في آخر الزمان». اهـ.
وقال: ومن الجدير بالذكر أن هذا الحديث ليس في ألفاظه إلا «منعت العراق ... »، ولا يستفاد بأي دلالة من الدلالات المعتبرة منه وقوع (الحصار)، وإن كان الواقع من جهة، والعقل السليم من جهة أخرى، يستلزم من (منع) العراق خيراتها لأهلها، أن يكون ذلك من خلال قوة ضاغطة عليها، تحول دون ذلك، وقد يبتدئ ذلك بـ (الحصار)، وينتهي بـ (الاحتلال)، ويساعد على الثاني: ما أخرجه ابن النجار - كما في «كنز العمال»- عن حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كأنكم براكبٍ قد أتاكم، فنزل، فقال: الأرض أرضُنا، والمصر مصرُنا، والفيء فيئنا، وإنما أنتم عبيدُنا، فحال بين الأرامل واليتامى، وما أفاء الله عليهم». اهـ.
وأما مسألة الترتيب بين العراق والشام ومصر، فظاهر الآثار يؤيد ذلك، وقد أورد الشيخ مشهور أثرا عن جرير بن عبد الله البجلي موقوفا: إن أول الأرض خراباً يُسراها، ثم تتبعها يُمناها. وعزاه لابن أبي شيبة، وقال: إسناده صحيح ...
ومما يستفاد من هذا الأثر؛ أن الجهة اليسرى، أو جهة الشرق من الأرض تخرب قبل اليمنى، أو الغرب، وهذا يشهد لما ورد في حديث أبي هريرة: «منعت العراق ... منعت الشام ... منعت مصر ... » ، وأيّدنا هذا فيما مضى بقول جابر في «صحيح مسلم»: «يوشك أهل العراق أن لا يجبى إليهم قفيز ولا درهم ... يوشك أهل الشام أن لا يجبى إليهم دينار ولا مُدْي ... » ، و «يوشك» ؛ معناه: «يسرع»، ففيه معنى الحدوث في الزمان، وذكرها قبل لفظة (خليفة) في آخر الزمان، يؤيّد ويقوي الترتيب، وتكاد تُجمع الآثار على الترتيب المذكور، ولا يوجد فيها ما يخالف ذلك، فضلاً على العموم الوارد في أثر حذيفة هذا، وظفرتُ بحديث وقع التصريح فيه بتأخير الفتن عن (مصر). انتهى.
وأورد حديث عمرو بن الحَمِق مرفوعا: «تكون فتنة أسلم الناس فيها - أو قال: خير الناس فيها - الجند الغربي»، قال عمرو بن الحمق: "فلذلك قدمت عليكم مصر". وضعَّف الحديث، ثم قال: ويغني عن هذا المعنى: ما أخرجه مسلم في صحيحه ... عن سعد بن أبي وقاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة» .. اهـ. وراجع بقية كلامه هناك بطوله؛ فإنه مفيد.
وأما السؤال عن العودة، وهل تكون إلى الحجاز؟ فجوابه أن: نعم! ونخصُّ من الحجاز ما بين المسجدين: المسجد الحرام والمسجد النبوي، أو المدينة النبوية خصوصا، وتجد لذلك فصلا في الكتاب المشار إليه سابقا، بعنوان: (المدينة النبوية ونصيبها من الفتن).
قال فيه: في هذه الفترة التي يطمع بها الكفار في خيرات بلاد المسلمين، في (العراق) و (الشام) و (مصر) تعمر المدينة بالإيمان، وتشتد الفتن في غيرها بمضيّ الزمان، ويكون حال أهلها كالمرابط على الثغران. اهـ.
وأورد فيه حديث ابن عمر مرفوعا: "يكون آخر مسالح أمتي بسلاح من خيبر". ولفظ أبي داود: «يوشك المسلمون أن يُحاصروا إلى المدينة، حتى يكون أبعد مسالحهم سَلاح»، قال: وإسناده قوي ... . اهـ.
ثم عقد بعده فصلا في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: وعدتم من حيث بدأتم.
وقال الشيخ التويجري في(إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم، وأشراط الساعة): والذي يظهر لي في معنى قوله: «منعت العراق درهمها» الحديث، أن: ذلك إشارة إلى ما صار إليه الأمر في زماننا وقبله بأزمان، من استيلاء الأعاجم من الإفرنج وغيرهم على هذه الأمصار المذكورة في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وانعكاس الأمور بسبب ذلك، حتى صار أهل الذمة أقوى من المسلمين وأعظم شوكة، فامتنعوا من أحكام الإسلام التي كانت تجري عليهم من قبل، وانتقض حكم الخراج وغيره، ثم زاد الأمر شدة، فوضعت قوانين أعداء الله ونظمهم مكان الأحكام الشرعية، وألزموا بها من تحت أيديهم من المسلمين، والذين انفلتوا من أيدي المتغلبين عليهم ما زالوا على ما عهدوه من تحكيم القوانين، وسنن أعداء الله تعالى، والتخلق بأخلاقهم الرذيلة، بل على شر مما عهدوه؛ كما لا يخفى على من له أدنى علم ومعرفة. اهـ.
وقال أيضا: في قوله صلى الله عليه وسلم: وعدتم من حيث بدأتم: إشارة إلى استحكام غربة الإسلام، ورجوعه إلى مقره الأول؛ كما في الحديث الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة، كما تأرز الحية إلى جحرها» رواه الإمام أحمد، والشيخان، وابن ماجه؛ من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.. وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الإسلام بدأ غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، وهو يأرز بين المسجدين، كما تأرز الحية في جحرها» رواه مسلم ... اهـ.
ولمزيد الفائدة، يمكن الاطلاع على الفتاوى التالية أرقامها: 139184، 31021، 32267، 63432، 34110.
والله أعلم.