الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن فحوى سؤالك هذا يدور حول الحكمة من أفعال الله جل وعلا، وما يقضيه ويقدره، مما يكون شرا بالنسبة إلى بعض الخلق. وإلا فهي من جهة تقدير الله جل وعلا وخلقه لها سبحانه، خير محض لا شر فيه؛ لما لله في كل ما يقضيه من الحكم البالغة الباهرة، التي لا يحيط بها العباد.
وهذا الجواب الشافي عن هذه القضية الكبرى، بالتسليم والإذعان بأن الله جل وعلا حكيم، وأنه لا يفعل شيئا، ولا يقضي أمرا، إلا وله فيه أتم الحكمة، وله عليه أكمل الحمد، لكن العباد لا يحيطون علما بحكمته جل وعلا في كل ما يخلق ويقدر، فإن القدر: سر الله الذي لم يحط به علما سواه.
وإنما يقع الإشكال للمرء بطمعه في الإحاطة بحكمة الله في فعله، والخوض في ذلك بالتعليل، وقياس أفعال الله جل وعلا على أفعال خلقه، وكل ذلك من المسالك المنحرفة عن سبيل إيمانه بالقدر، والتي تفسد على العبد دينه ودنياه.
ولا يمنع التسليم بحكمة الله جل وعلا، أن يتلمس المرء بعض الحكم الظاهرة من أفعال الله جل وعلا، ليزداد إيمانا ويقينا وطمأنينة بحكمة الرب جل وعلا ولطفه.
وبخصوص الزلازل: فإن لله في وقوعها حكم بالغة، من بيان لقدرة الله وعظمته، وضعف العباد وعجزهم، وإهلاك الظالمين بذنوبهم وعصيانهم، وتخويف المؤمنين وتذكيرهم ليتوبوا وينيبوا إلى ربهم.
قال ابن تيمية: والزلازل من الآيات التي يخوف الله بها عباده، كما يخوفهم بالكسوف وغيره من الآيات. والحوادث لها أسباب وحكم، فكونها آية يخوف الله بها عباده هي من حكمة ذلك. اهـ.
قال ابن القيم: ومن تأثير معاصي الله في الأرض، ما يحل بها من الخسف والزلازل.
وقال أيضا: وذكر ابن أبي الدنيا عن أنس بن مالك: أنه دخل على عائشة، هو ورجل آخر، فقال لها الرجل: يا أم المؤمنين حدثينا عن الزلزلة، فقالت: إذا استباحوا الزنا، وشربوا الخمر، وضربوا بالمعازف، غار الله عز وجل في سمائه، فقال للأرض تزلزلي بهم، فإن تابوا ونزعوا، وإلا هدمها عليهم، قال: يا أم المؤمنين، أعذابا لهم؟ قالت: بلى، موعظة ورحمة للمؤمنين، ونكالا وعذابا وسخطا على الكافرين، فقال أنس: ما سمعت حديثا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا أشد فرحا به مني بهذا الحديث.
وذكر ابن أبي الدنيا حديثا مرسلا: «إن الأرض تزلزلت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضع يده عليها، ثم قال: اسكني، فإنه لم يأن لك بعد، ثم التفت إلى أصحابه، فقال: إن ربكم ليستعتبكم فأعتبوه، ثم تزلزلت بالناس على عهد عمر بن الخطاب، فقال، يا أيها الناس؛ ما كانت هذه الزلزلة إلا عن شيء أحدثتموه، والذي نفسي بيده لئن عادت لا أساكنكم فيها أبدا». وفي مناقب عمر لابن أبي الدنيا «أن الأرض تزلزلت على عهد عمر، فضرب يده عليها، وقال: ما لك؟ ما لك؟ أما إنها لو كانت القيامة حدثت أخبارها، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا كان يوم القيامة فليس فيها ذراع ولا شبر إلا وهو ينطق».
وذكر الإمام أحمد عن صفية، قالت: زلزلت المدينة على عهد عمر، فقال: يا أيها الناس؛ ما هذا؟ وما أسرع ما أحدثتم، لئن عادت لا أساكنكم فيها.
وقال كعب: إنما زلزلت الأرض إذا عمل فيها بالمعاصي، فترعد فرقا من الرب جل جلاله أن يطلع عليها.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار: أما بعد؛ فإن هذا الرجف شيء يعاتب الله عز وجل به العباد، وقد كتبت إلى الأمصار أن يخرجوا في يوم كذا وكذا، في شهر كذا وكذا، فمن كان عنده شيء فليتصدق به، فإن الله عز وجل يقول: {قد أفلح من تزكى - وذكر اسم ربه فصلى} [سورة الأعلى: 14 - 15]. وقولوا كما قال آدم: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} [سورة الأعراف: 23]. وقولوا كما قال نوح: {وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} [سورة هود: 47]. وقولوا كما قال يونس: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} [سورة الأنبياء: 87]. اهـ.
وجرت سنة الله تعالى أنه إذا كثر الخبث ولم تقم شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أن العذاب إذا نزل عم الجميع.
ففي الصحيحين عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ: «لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ، وَمأْجُوجَ مِثْلُ هَذَا، وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ، وَبِالَّتِي تَلِيهَا» فَقَالَتْ زَيْنَبُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ؛ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: «نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ»
وفي مسند أحمد وغيره عن أبي بكر الصديق: أنه خطب فقال: يا أيها الناس؛ إنكم تقرؤون هذه الآية، وتضعونها على غير ما وضعها الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر بينهم فلم ينكروه، يوشك أن يعمهم الله بعقابه.
وقد يهلك في الزلازل من لا يستحق العذاب كالأطفال والصالحين، ثم يبعثون على نياتهم في الآخرة، ففي الصحيحين عن عَائِشَة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَغْزُو جَيْشٌ الكَعْبَةَ، فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأَرْضِ، يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ» قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ، وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: «يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ».
وقد يكون هلاكهم في الزلازل خيرا لهم وراحة من نصب الدنيا وأذاها، كما في الحديث: وقد مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة، فقال: مستريح ومستراح منه، قالوا: يا رسول الله؛ ما المستريح والمستراح منه؟ قال: العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب. رواه البخاري ومسلم.
والموت في الزلازل، ضرب من الموت بالهدم، الذي يكون صاحبه من شهداء الآخرة.
ثم: أي فرق بين هلاك الأطفال والصالحين بالزلازل ونحوها، وبين موتهم بغيرها من الأسباب المعتادة؟
وراجع لمزيد من الفائدة، الفتاوى التالية أرقامها: 32841 // 152669 320332 // 274774.
والله أعلم.