الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالذي فهمنا من السؤال أن السائل لم يشارك أخاه بمال ولا بعرض (بضاعة)، وإنما كان عمله مقتصرا على تصريف البضاعة. وإذا كان كذلك فالاتفاق بينهما ليس نوعا من الشركات، وإنما هو أجير أو وكيل بأجرة، وأجرته نسبة من الربح، وصحة مثل هذه الإجارة محل خلاف بين أهل العلم، فصححها الإمام أحمد، والجمهور على فسادها، وإذا فسدت كان الربح كله لصاحب البضاعة، وللعامل أجرة المثل. وراجع في ذلك الفتويين: 66937، 70079.
ويمكن أن تُكَيَّف المعاملة المذكورة في السؤال على أنها مضاربة بالعروض، التي هي البضاعة المذكورة، وهذه أيضا محل خلاف، والجمهور على عدم صحتها، ومن صححها من أئمة المذاهب اشترط أن تجعل قيمة العروض وقت العقد هي رأس المال، وهذا لم يحصل على ما فهمناه من السؤال، وانظر في ذلك الفتوى رقم: 98357.
وقال الإمام البخاري في باب أجر السمسرة من صحيحه: ولم ير ابن سيرين وعطاء وإبراهيم والحسن بأجر السمسار بأسا. وقال ابن عباس: لا بأس أن يقول: بع هذا الثوب فما زاد على كذا وكذا فهو لك. وقال ابن سيرين: إذا قال: بعه بكذا فما كان من ربح فهو لك، أو بيني وبينك، فلا بأس به. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "المسلمون عند شروطهم". اهـ.
قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري: أما قول ابن عباس: (بع هذا الثوب فما زاد على كذا فهو لك) . وقول ابن سيرين: (بعه بكذا فما كان من ربح فهو لك، أو بيني وبينك). فإن أكثر العلماء لا يجيزون هذا البيع، وممن كرهه النخعي والحسن والثوري والكوفيون، وقال مالك والشافعي: لا يجوز، فإن باع فله أجر مثله. وأجازه أحمد وإسحاق، وقالا: هو من باب القراض، وقد لا يربح المقارض. وحجة الجماعة أنه قد يمكن ألا يبيعه بالثمن الذى سمى له؛ فيذهب عمله باطلا، وهو من باب الغرر، وهي أجرة مجهولة أو جعل مجهول فلا يجوز، وأما حجة من أجازه فقول النبي - عليه السلام -: "المسلمون عند شروطهم" ولا حجة لهم فيه؛ لأنه قد أحكمت السنة أنه لا يجوز من شروط المسلمين شرط أحل حراما أو حرم حلالا. اهـ.
وقال ابن حجر في فتح الباري عن أثر ابن عباس: وهذه أجر سمسرة أيضا لكنها مجهولة، ولذلك لم يجزها الجمهور، وقالوا: إن باع له على ذلك فله أجر مثله. وحمل بعضهم إجازة ابن عباس على أنه أجراه مجرى المقارض، وبذلك أجاب أحمد وإسحاق. اهـ. وقال عن أثر ابن سيرين: وهذا أشبه بصورة المقارض من السمسار. اهـ.
وقال الإمام مالك في الموطأ: لا يصلح القراض – يعني المضاربة - إلا في العين من الذهب أو الورق، ولا يكون في شيء من العروض والسلع. اهـ.
قال ابن عبد البر في الاستذكار: اختلف الفقهاء في صفة المال الذي يجوز به القراض، فقال مالك في الموطإ – وذكر كلامه السابق - وقول مالك في ذلك كله كقول الليث والثوري والشافعي وأبي حنيفة. وقال ابن أبي ليلى: يجوز القراض بالعروض. وقال: إذا دفع إليه ثوبا على أن يبيعه فما كان من ربح فبينهما نصفين، أو أعطاه دارا بينهما ويؤاجرها على أن أجرها بينهما نصفين، جاز، والأجر والربح بينهما نصفين. قال: وهذا بمنزلة الأرض المزارعة. اهـ.
وهذه المعاملة الواردة في كلام ابن أبي ليلى هي أشبه شيء بالحال المسئول عنها. وقد علمت أن جمهور أهل العلم لا يصححونها! وإذا حكم بفسادها كان المال وربحه أو خسارته لصاحب البضاعة، وأما العامل فله أجرة المثل.
وأما السؤال عن حق السائل في استكمال المشروع بنفسه، وأخذ الزبائن الذين اكتسبهم للمشروع، فلا حرج عليه في ذلك من حيث الأصل. وإن كان ذلك سيسبب خلافا مع أخيه أو قطيعة أو ما أشبه ذلك، فرأى الابتعاد عن المشروع بالكلية تجنبا لذلك، وحرصا على صلة أخيه، فهذا عمل صالح، يشكر عليه، ويؤجر إن شاء الله. وإن اتفق الأخوان على اقتسام أماكن العمل والزبائن، فهذا خير لهما.
وأما مسألة نقل الكلام، ونسبة المرء الفضل لنفسه، فهذا من سوء الخلق والجهل بحقائق الأمور! فالفضل كله لله، وليس للسائل ولا لأخيه، فالله هو الرزاق الكريم، قال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود: 6] وقال سبحانه: أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ [الملك: 21].
والله أعلم.