الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا شك أنك واقع في محنة كبيرة، واختبار عظيم لإيمانك، وأول ما نوصيك به هو الصبر على أبيك، والإحسان إليه بكل سبيل؛ فإن بره - خصوصًا مع كِبَر سِنِّه - من أعظم الطاعات، وعقوقه من أعظم الكبائر الموبقات، فقد جاء في صحيح البخاري وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس.
والنصوص الشرعية من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في بر الوالدين وصلتهما والإحسان إليهما كثيرة مشهورة، قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا. [سورة الإسراء: 22-24].
وعن بَهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله من أبَرُّ؟ قال: أُمَّك، ثم أُمَّك، ثم أمَّك، ثم أباك، ثم الأقربَ فالأقربَ. رواه أبو داود، وصححه الأرناؤوط.
وقال صلى الله عليه وسلم: الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه. رواه الترمذي, وصححه.
وقال عليه الصلاة والسلام: رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الكِبَرَ فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الجَنَّةَ. رواه الترمذي وحسنه.
ومن البر به والإحسان إليه بذل النصح له بأن يتقي الله تعالى فيكم، على أن يكون ذلك بأسلوب حسنٍ رفيق، وبشرط ألا يؤدي هذا إلى مفسدة عظيمة.
واعلم أن حق الوالدين يستمر حتى مع إساءتهما وتقصيرهما في حق الأبناء؛ لأن الله سبحانه لم يُعَلِّق الأمر ببر الآباء وإكرامهم على كونهم محسنين لأبنائهم، وإنما علقه على مجرد الأبوة، حتى ولو كانا مشركَين يدعوان ابنهما إلى الشرك بالله والكفر به! فعليه حينئذ أن يصاحبهما بالمعروف، قال سبحانه: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [سورة لقمان: 15]، فالواجب إكرام الوالدين، وإن كانا مسيئين.
ولكن كل هذه الحقوق التي جعلها الله تعالى لوالدك لا تُسوِّغ له ما يقوم به من ظلم، وتضييع لحقوق الله تعالى وحقوقكم، فلا شك أن ضربه لأمك ضربًا مبرِّحًا، وتركه للنفقة الواجبة، وقذفه لأخواتك؛ كل ذلك لا يجوز بحال.
والذي نرشدك إليه - بعد الصبر على والدك، واحتساب أجر ذلك عند الله تعالى - ثلاثة أمور؛ أولها: هو أن تعامله باعتباره مريضًا، فتترفق به، وتتحمل أذاه، ولا تواجهه بما يكره، وأن تتزلف إليه وتتملَّقه، كما يفعل مَن يروِّض الأسود؛ فتتألفه بتقديم الهدايا والأطعمة التي يحبها، وتبادر بتقبيل رأسه ويده بمجرد أن تراه، وغير ذلك. واعلم أن هذا أمر صعب في البداية، وستحتاج معه إلى مجاهدة، وحمل للنفس على ما يشق عليها، لكن عاقبته حميدة إن شاء الله.
الأمر الثاني: أن تحاول إشراك بعض أهل الخير في نصحه، كإمام المسجد، أو أحد الأقارب العقلاء، وذلك إن غلب على ظنك أن كلامهم معه يجدي نفعًا.
الأمر الثالث: أن تلزم الدعاء، فتلح على الله تعالى، وتتوسل إليه بكل وسيلة أن يهدي والدك، ويصلحه، وأن يعينك على بره. ولو تأخرت الإجابة فلا تيأس، فأنت على خير في جميع الأحوال.
والله أعلم.