الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فبغض النظر عن التأصيل الشرعي للثورات، والحكم بالجواز أو الحرمة، بحسب اختلاف الأحوال والمقاصد والنتائج، فقد استعمل المؤرخون هذا اللفظ في الفتن وقتال العامة، وفي الخروج على الولاة، سواء أكان الولاة من أهل العدل أو من أهل الجور. ويكفي أن يرجع السائل إلى كتب التاريخ المشهورة كالبداية والنهاية لابن كثير، وتاريخ الإسلام للذهبي، ويبحث فيها الكترونيا بلفظ (ثورة) ولفظ (ثار).
ومن ذلك قول الذهبي في أحداث سنة 98 هـ: فيها ثار حبيب بن أبي عبيدة الفهري، وزياد بن النابغة التميمي بعبد العزيز بن موسى بن نصير متولي الأندلس، فقتلوه وأمروا على الأندلس أيوب ابن أخت موسى بن نصير. اهـ.
وفي أحداث سنة 169 هـ: فيها ثار بالصعيد دحية بن مغصب الأموي، وقويت شكوته، ثم قتل بمصر لسنته. اهـ.
وفي أحداث سنة 194 هــ: فيها ثار أهل حمص بعاملهم إسحاق بن سليمان، فخرج إلى سلمية، فولى عليهم الأمين عبد الله بن سعيد الحرشي، فحبس عدة من وجوههم، وقتل عدة ... اهـ.
وفي أحداث سنة 198 هـ: وفي رمضان ثار أهل قرطبة بأميرهم الحكم بن هشام الأموي وحاربوه لجوره وفسقه، وتسمى وقعة الربض. وخرج عليه أهل ربض البلد، وشهروا السلاح، وأحاطوا بالقصر، واشتد القتال، وعظم الخطب ... اهـ.
وفي أحداث سنة 428 هـ: فيها ثار العيارون وكبسوا الحبس، وقتلوا جماعة من رجال الشرطة، وانبسطوا انبساطا زائدا. اهـ.
وفي أحداث سنة 502 هـ: وفيها ثار جماعة من الباطنية -لعنهم الله- في شيزر على حين غفلة من أهلها، فملكوها وأغلقوا الباب، وملكوا القلعة، وكان أصحابها أولاد منقذ قد نزلوا يتفرجون على عيد النصارى ... اهـ.
وفي أحداث سنة 549 : فيها ثارت الإسماعيلية، واجتمعوا سبعة آلاف مقاتل من بين فارس وراجل، وقصدوا خراسان ليملكوها عندما ينزل بها من الغز، فتجمع لهم أمراء من جند خراسان، ووقع المصاف، فهزم الله الإسماعيلية، وقتل رؤوسهم وأعيانهم، ولم ينج منهم إلا الأقل. اهـ.
ومن الكلام المهم في ذلك ما قاله ابن خلدون في مقدمته: كل أمر تحمل عليه الكافة فلا بد له من العصبية، وفي الحديث الصحيح كما مر: «ما بعث الله نبيّا إلّا في منعة من قومه» وإذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى النّاس بخرق العوائد، فما ظنّك بغيرهم أن لا تخرق له العادة في الغلب بغير عصبيّة ... ومن هذا الباب أحوال الثّوّار القائمين بتغيير المنكر من العامّة والفقهاء، فإنّ كثيرا من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدّين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر والنّهي عنه، والأمر بالمعروف رجاء في الثّواب عليه من الله، فيكثر أتباعهم والمتشبثون بهم من الغوغاء والدّهماء، ويعرّضون أنفسهم في ذلك للمهالك، وأكثرهم يهلكون في هذا السّبيل مأزورين غير مأجورين؛ لأنّ الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم، وإنّما أمر به حيث تكون القدرة عليه، قال صلّى الله عليه وسلّم: «من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه» وأحوال الملوك والدّول راسخة قويّة لا يزحزحها ويهدم بناءها إلّا المطالبة القويّة الّتي من ورائها عصبيّة القبائل والعشائر كما قدّمناه، وهكذا كان حال الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب، وهم المؤيّدون من الله بالكون كلّه لو شاء، لكنّه إنّما أجرى الأمور على مستقرّ العادة، والله حكيم عليم، فإذا ذهب أحد من النّاس هذا المذهب، وكان فيه محقّا قصّر به الانفراد عن العصبيّة، فطاح في هوّة الهلاك، وأمّا إن كان من المتلبّسين بذلك في طلب الرّئاسة، فأجدر أن تعوقه العوائق، وتنقطع به المهالك؛ لأنّه أمر الله لا يتمّ إلّا برضاه وإعانته والإخلاص له والنّصيحة للمسلمين، ولا يشكّ في ذلك مسلم، ولا يرتاب فيه ذو بصيرة. اهـ.
والله أعلم.