الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالكشف منه ما هو رحماني، وهو كرامة من الله، يكرم بها بعض عباده، ومنه ما هو شيطاني، ومنه ما هو نفساني، وتفصيل ذلك في الفتوى: 296404.
والكشف الذي يكون من الله، هو شيء يلقى في روع العبد، بلا طلب منه، ولا اكتساب.
وأما ما يطلب بالرياضة، ونحوها، فليس من الكشف الرحماني.
ولا يجوز التجسس بمثل هذه الطرق على ما يخفيه الآخرون.
والكشف لا تبنى عليه أحكام؛ حتى يعرض على الكتاب، والسنة؛ ليتحقق العبد مما إذا كان كشفًا من الله، أو ليس كذلك.
وإذا كان خيار أولياء الله، ليس لهم العمل بما يحدث لهم من الكشف، والإلهام، فغيرهم من باب أولى، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: والأولياء وإن كان فيهم محدثون، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد، فعمر}، فهذا الحديث يدل على أن أول المحدثين من هذه الأمة عمر؛ وأبو بكر أفضل منه؛ إذ هو الصديق، فالمحدث - وإن كان يلهم ويحدث من جهة الله تعالى، فعليه أن يعرض ذلك على الكتاب، والسنة، فإنه ليس بمعصوم، كما قال أبو الحسن الشاذلي: قد ضمنت لنا العصمة فيما جاء به الكتاب، والسنة، ولم تضمن لنا العصمة في الكشوف، والإلهام؛ ولهذا كان عمر بن الخطاب وقافًا عند كتاب الله، وكان أبو بكر الصديق يبين له أشياء تخالف ما يقع له، كما بين له يوم الحديبية، ويوم موت النبي صلى الله عليه وسلم، ويوم قتال مانعي الزكاة، وغير ذلك. وكان عمر بن الخطاب يشاور الصحابة؛ فتارة يرجع إليهم، وتارة يرجعون إليه، وربما قال القول، فترد عليه امرأة من المسلمين قوله، وتبين له الحق، فيرجع إليها، ويدع قوله، كما قدر الصداق. وربما يرى رأيًا فيذكر له حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيعمل به، ويدع رأيه، وكان يأخذ بعض السنة عمن هو دونه في قضايا متعددة، وكان يقول القول، فيقال له: أصبت، فيقول: والله، ما يدري عمر أصاب الحق أم أخطأه؟ فإذا كان هذا إمام المحدثين، فكل ذي قلب يحدثه قلبه عن ربه إلى يوم القيامة هو دون عمر، فليس فيهم معصوم، بل الخطأ يجوز عليهم كلهم. انتهى.
وأما بناء الأحكام على الرؤى المنامية، فلا يجوز، بل ولو رأى الشخص النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، أو أمره بخلاف ما جاءت به النصوص، لم يكن له اتباع ما رآه في منامه، قال الجلال السيوطي -رحمه الله- في تنوير الحوالك: وَقع فِي زمن شيخ الْإِسْلَام عز الدّين بن عبد السَّلَام، أَن رجلًا رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي النّوم، فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ إِلَى مَوضِع كَذَا، فاحفره، فَإِن فِيهِ ركازًا، فَخذه لَك، وَلَا خمس عَلَيْك فِيهِ، فَلَمَّا أصبح ذهب إِلَى ذَلِك الْموضع، فحفره، فَوجدَ الرِّكَاز، فاستفتى عُلَمَاء عصره، فأفتوه بِأَنَّهُ لَا خمس عَلَيْهِ؛ لصِحَّة الرُّؤْيَا. وَأفْتى الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام بِأَن عَلَيْهِ الْخمس. وَقَالَ: أَكثر مَا ننزل مَنَامه منزلَة حَدِيث رُوِيَ بِإِسْنَاد صَحِيح، وَقد عَارضه مَا هُوَ أصح مِنْهُ، وَهُوَ الحَدِيث الْمخْرج فِي الصَّحِيحَيْنِ: فِي الرِّكَاز الْخمس، وَيقدم عَلَيْه. انتهى.
فالأحكام إنما تتلقى عن الشرع الشريف، لا عن الرؤى، والمنامات.
والله أعلم.