التمسح بالكعبة ومجادلة من تخفى عليه السنة

4-9-2019 | إسلام ويب

السؤال:
دار بيني وبين شخص عزيز حِوار، وقال لي: إنه ذات مرة ذهب إلى المسجد الحرام، وتمسّح بالكعبة، فقلت له: التمسح بالكعبة بقصد التبرك حرام؛ لأن النبي لم يفعل ذلك، فقال: هل رأيت النبي لم يفعل ذلك؟ فقلت له: سيرته منقولة لنا بصدق دون نقص من الصحابة إلى السلف -رضوان الله عليهم-، وهم خير القرون، ثم قال لي: أنا أتبع القرآن الكريم فقط المعصوم من الأخطاء، فقلت له: والسنة النبوية الشريفة المطهرة المعصومة الصحيحة أيضًا كذلك، والقرآن الذي نتبعه أنا وأنت يقول: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)، ثم استدل على التمسح بالكعبة بآية ليست لها علاقة: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله)، فهو يحسب أن البركة المذكورة في الآية عن المسجد الحرام، وإنما هي عن المسجد الأقصى، ومع ذلك لا ننكر فضل المسجد الحرام، فهناك مواضع أخرى، فهل أنا أخطأت في شيء؟ فأنا قلت له: التمسح بالكعبة بقصد التبرك بدعة، وإنما بغير ذلك -كاستكشاف مثلًا- عادي، وماذا أفعل إذا ناقشني أحد في أمر من أمور الدِّين؟ وكيف أجمع بين تبيان الحق للناس، وبين الفوز بما في حديث: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا)؟

الإجابــة:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فبداية: نقرر أن التمسح بجدران الكعبة في غير الركنين اليمانيين، لا يعرف عن أحد من الأئمة المتبوعين، ولا روي فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من أصحابه، بل الثابت عنهم يفيد خلاف ذلك، وكذلك الحال في مقام إبراهيم، وغيره مما يُعظَّم في الحرم؛ روى الأزرقي في أخبار مكة بإسناده عن قتادة في قوله: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى {البقرة:125}، قال: «إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت هذه الأمة شيئًا ما تكلفته الأمم قبلها، ولقد ذكر لنا بعض من رأى أثره وأصابعه، فما زالت هذه الأمة تمسحه؛ حتى اخلولق، وانماح». واستدل ابن القيم في إغاثة اللهفان بأثر قتادة هذا على إنكار السلف للتمسح بالمقام الذي أمر الله أن يُتخذ منه مُصلى!!

وجاء في مسائل الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه: قلت: مس المقام؟ قال: لا يمسه. قال إسحاق: كما قال، إنما أمر بالصلاة إليه. اهـ. ونص النووي في مناسكه على بدعية ذلك، فقال: لا يقبل مقام إبراهيم، ولا يستلمه، فإنه بدعة، وقد روي عن ابن الزبير، ومجاهد كراهته، ولا يستلم أيضًا الركنين الشاميين. اهـ.

وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم المنع من تقبيل جوانب الكعبة، غير الركنين اليمانيين، عن عامة السلف، وإجماع الأئمة الأربعة، فقال: قد ثبت باتفاق أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حج البيت، لم يستلم من الأركان، إلا الركنين اليمانيين، فلم يستلم الركنين الشاميين، ولا غيرهما من جوانب البيت، ولا مقام إبراهيم، ولا غيره من المشاعر، وأما التقبيل، فلم يقبل إلا الحجر الأسود.

وقد اختلف في الركن اليماني: فقيل: يقبله. وقيل: يستلمه ويقبّل يده، وقيل: لا يقبله ولا يقبل يده. والأقوال الثلاثة مشهورة في مذهب أحمد، وغيره.

والصواب: أنه لا يقبله، ولا يقبل يده، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل هذا ولا هذا، كما تنطق به الأحاديث الصحيحة، ثم هذه مسألة نزاع.

وأما مسائل الإجماع، فلا نزاع بين الأئمة الأربعة، ونحوهم من أئمة العلم، أنه لا يقبل الركنين الشاميين، ولا شيئًا من جوانب البيت، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستلم إلا الركنين اليمانيين، وعلى هذا عامة السلف، وقد روي: «أن ابن عباس، ومعاوية طافا بالبيت، فاستلم معاوية الأركان الأربعة. فقال ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستلم إلا الركنين اليمانيين، فقال معاوية: ليس من البيت شيء متروك، فقال ابن عباس: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، فرجع إليه معاوية». وقد اتفق العلماء على ما مضت به السنة من أنه لا يشرع الاستلام، والتقبيل لمقام إبراهيم الذي ذكره الله تعالى في القرآن، وقال: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، فإذا كان هذا بالسنة المتواترة، وباتفاق الأئمة، لا يشرع تقبيله بالفم، ولا مسحه باليد، فغيره من مقامات الأنبياء أولى أن لا يشرع تقبيلها بالفم، ولا مسحها باليد. اهـ. وقال القاسمي في كتاب: "إصلاح المساجد من البدع والعوائد": لا يتمسح بشيء إلا الحجر الأسود -كما في كتب الفروع- وما عداه، فلا يستحب التمسح به؛ إذ لم يستحبه أحد من الأئمة قط. والتمسح الذي حدث في القرون الأخيرة أصله من أهل الكتاب. اهـ. وراجع لمزيد الفائدة الفتويين: 140192، 302671.

ثم إن الأماكن التي ثبت كونها مباركة، فهذا لا يعني التمسح بها لأخذ البركة منها!! وإنما يعني أن تعامل على مقتضى الشرع، واتباع السنة، قال ابن الحاج في المدخل: التبرك إنما يكون بالاتباع له عليه الصلاة والسلام، وما كان سبب عبادة الجاهلية للأصنام إلا من هذا الباب؛ ولأجل ذلك كره علماؤنا -رحمة الله عليهم- التمسح بجدار الكعبة، أو بجدران المسجد، أو بالمصحف، إلى غير ذلك مما يتبرك به؛ سدًّا لهذا الباب، ولمخالفة السنة؛ لأن صفة التعظيم موقوفة عليه صلى الله عليه وسلم، فكل ما عظّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم نعظمه، ونتبعه فيه، فتعظيم المصحف قراءته، والعمل بما فيه، لا تقبيله، ولا القيام إليه، كما يفعل بعضهم في هذا الزمان، وكذلك المسجد تعظيمه الصلاة فيه، لا التمسح بجدرانه. اهـ. وتبعه على ذلك عليش المالكي في (فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك).

وأما مجادلة من تخفى عليه السنة: فإن الأصل هو الإخبار بالسنة، والدلالة عليها، بلا مخاصمة وجدال، فإن كابر المخالف، وجادل بلا علم، فإن الذي ينبغي هو السكوت عنه؛ لئلا ينقلب الأمر من بيانٍ للحق رحمةً بالخلق، وحرصًا على هدايتهم، إلى انتصار للنفس، وإفحام للمخالف، ولما يفضي إلى الجدل من الضغائن، وقسوة القلب، وزيادة إصرار المخالف على باطله، إلا إن كان في الجدال مصلحة راجحة، كإظهار بطلان القول المخالف؛ لئلا يغتر به الناس، ونحو ذلك، جاء في الآداب الشرعية: ونقل مهنا [عن أحمد]: ينبغي أن يأمر بالرفق والخضوع. قلت: كيف قال: إن أسمعوه ما يكره، لا يغضب، فيريد أن ينتصر لنفسه. وسأله أبو طالب إذا أمرته بمعروف فلم ينته، قال: دعه، إن زدت عليه، ذهب الأمر بالمعروف، وصرت منتصرًا لنفسك، فتخرج إلى الإثم، فإذا أمرت بالمعروف، فإن قبل منك، وإلا فدعه. اهـ.

وفي جامع العلوم والحكم لابن رجب: وكان مالك يكره المجادلة عن السنن أيضًا. قال الهيثم بن جميل: قلت لمالك: يا أبا عبد الله، الرجل يكون عالمًا بالسنن، يجادل عنها؟ قال: لا، ولكن يخبر بالسنة، فإن قبل منه، وإلا سكت. قال إسحاق بن عيسى: كان مالك يقول: المراء والجدال في العلم، يذهب بنور العلم من قلب الرجل. وقال ابن وهب: سمعت مالكًا يقول: المراء في العلم يقسّي القلوب، ويورث الضغن. اهـ.

وفي جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر: كان مالك بن أنس يقول: «الكلام في الدين أكرهه، وكان أهل بلدنا يكرهونه، وينهون عنه، نحو الكلام في رأي جهم، والقدر، وكل ما أشبه ذلك، ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل، فأما الكلام في الدين، وفي الله عز وجل، فالسكوت أحب إليّ؛ لأني رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين، إلا ما تحته عمل». قد بيّن مالك -رحمه الله- أن الكلام فيما تحته عمل هو المباح عنده، وعند أهل بلده -يعني العلماء منهم رضي الله عنهم-، وأخبر أن الكلام في الدين -نحو القول في صفات الله، وأسمائه، وضرب مثلًا، فقال: نحو رأي جهم، والقدر- والذي قاله مالك عليه جماعة الفقهاء، والعلماء قديمًا وحديثًا من أهل الحديث، والفتوى، وإنما خالف ذلك أهل البدع المعتزلة، وسائر الفرق، وأما الجماعة على ما قال مالك، إلا أن يضطر أحد إلى الكلام، فلا يسعه السكوت، إذا طمع برد الباطل، وصرف صاحبه عن مذهبه، أو خشي ضلال عامة، أو نحو هذا. اهـ.

هذا وتجب مراعاة أمر مهم: وهو أنه لا يسوغ للمسلم أن يتكلم فيما لا يعلم، أو يخوض فيما لا يحسن؛ بحجة الرد على المخالف، والدفاع عن الحق، اجتهادًا منه دون أهلية، فإن ضرر ذلك أبلغ من نفعه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على المنطقيين: فليس لأحد أن يتكلم بلا علم، بل يحذر ممن يتكلم في الشرعيات بلا علم، وفي العقليات بلا علم، فإن قومًا أرادوا بزعمهم نصر الشرع بعقولهم الناقصة، وأقيستهم الفاسدة، فكان ما فعلوه مما جرأ الملحدين أعداء الدين عليه، فلا للإسلام نصروا، ولا لأعدائه كسروا. اهـ.

والله أعلم.

www.islamweb.net