الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فاللغة هي أصل هذه القضية، فهي وسيلة البيان، والفهم، والتعليم؛ ولذلك كان من حكمة الله تعالى ألا يرسل رسولًا إلى قوم إلا بلغتهم، كما قال عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم: 4]: أي بلغة قومه؛ ليفهمهم ما أتى به، قال السعدي في تفسيره: وهذا من لطفه بعباده، أنه ما أرسل رسولًا {إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} ما يحتاجون إليه، ويتمكنون من تعلم ما أتى به، بخلاف ما لو كانوا على غير لسانهم، فإنهم يحتاجون إلى أن يتعلموا تلك اللغة التي يتكلم بها، ثم (يفهمون )عنه، فإذا بين لهم الرسول ما أمروا به، ونهوا عنه، وقامت عليهم حجة الله {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ}. اهـ.
ولذلك فإن فهم القرآن يعتمد -أول ما يعتمد- على فهم لغة العرب، قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف:2]، وقال سبحانه: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 195]، وهذا وحده يكفي في فهم بعض الآيات، وهناك آيات أخرى لا بد في فهمها من معرفة سبب نزولها، أو ما جاء في بيان معناها من السنة النبوية، أو آثار الصحابة.
وبهذا يتفاضل ويتفاوت العرب الأقحاح أنفسهم في فهم القرآن؛ ولذلك روى جماعة من المفسرين -كابن جرير، وابن المنذر، وعبد الرزاق- في تفاسيرهم عن ابن عباس قال: تفسير القرآن على أربعة وجوه: تفسير تعلمه العلماء، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته من الحلال والحرام، وتفسير لا يعلم تأويله إلا الله. اهـ.
وقال الدكتور مساعد الطيار في خاتمة رسالته القيمة للدكتوراه: (التفسير اللغوي للقرآن الكريم): وأنه -يقصد التفسير اللغوي- من أكبر مصادر التفسير، وهذا ظاهر لمن يقرأ مدونات التفسير .. وهذا يعني أن المفسّر يحتاج إلى تعلم اللغة خاصة؛ ليفيد في تفسير القرآن، وفي بيان وجهة كثير من أقوال المفسرين، وفي بيان خطأ من خالف لغة العرب، وفسر بما لا يوجد فيها ...
معرفة اللغة العربية ضروري لمعرفة مخالفة من يفسر القرآن بغيرها، وأنها سلاح يشهر في وجه من يبتدع معاني لا تعرفها العرب؛ ذلك لأن القرآن عربي، ولا يمكن أن يفسر بدلالة ألفاظ غيرها، وهذا فيه من التجني، والتقول على الله بغير علم ما لا يخفى. اهـ. وقال أيضًا: عقدت قاعدة بعنوان: (لا يصح اعتماد اللغة دون غيرها من المصادر التفسيرية)، وقد بينت فيها أنه مع ما للغة من الأهمية في فهم القرآن، والرد على انحرافات بعض التفاسير؛ فإنها لا تعتبر المصدر الوحيد، بل هناك ما يقدم عليها عند الاختلاف في فهم معنى الآية، فسبب النزول يبين المعنى المحتمل من دلالات اللفظ اللغوي؛ ولذا لا يصح أن يحمل المعنى على غير ما يدل عليه سبب النزول. والمعنى الشرعي مقدم على المعنى اللغوي إذا تعارضا في مثال ما؛ لأن الشارع معني ببيانها، لا ببيان المعنى اللغوي .. اهـ.
والمقصود أن القطع، أو حتى غلبة الظن بإصابة المفسّر في بيان شيء من معاني القرآن، لا تتأتى إلا لمن يفهم لغة العرب التي نزل بها القرآن، ويعلم ما يتعلق بالآية من السنة النبوية، وآثار الصحابة.
ومع ذلك؛ يبقى فهم بعض الآيات محل اختلاف واجتهاد من أهل العلم الراسخين في ترجيح أحد المعاني المحتملة للآية.
وأما حال الوليد بن المغيرة التي سبق أن ذكرناها في الفتوى: 104947، وكيف عرف الحق وميَّزه بعد سماعه للقرآن، فهذا إنما يصل إليه من كان لديه من العلم بلسان العرب وآدابها نحو ما كان لدى الوليد! فليس الأمر مجرد فهم لمعاني الكلام، وإنما هو ذوق لغوي يقطع صاحبه بأن هذا الكلام ليس من كلام البشر!
وفي هذا الباب ننصح السائل بقراءة كتاب: (النبأ العظيم: نظرات جديدة في القرآن) للعلامة الدكتور محمد عبد الله دراز ـ رحمه الله ـ ففيه البراهين الساطعة، والحجج الدامغة التي تثبت أن هذا القرآن هو كلام الخالق سبحانه، الذي لا يمكن أن يخرج من أحد سواه.
والله أعلم.