الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن الأصل أنه يجب شرعًا العدل بين الأبناء في الهبة، على الراجح من أقوال العلماء، فلا يجوز تخصيص بعضهم بالعطية دون مسوغ شرعي، جاء في المغني لابن قدامة: يجب على الإنسان التسوية بين أولاده في العطية، إذا لم يختص أحدهم بمعنى يبيح التفضيل، فإن خص بعضهم بعطيته، أو فاضل بينهم فيها، أثم، ووجبت عليه التسوية بأحد أمرين: إما رد ما فضل به البعض، وإما إتمام نصيب الآخر. قال طاوس: لا يجوز ذلك، ولا رغيف محترق. وبه قال ابن المبارك، وروي معناه عن مجاهد، وعروة. وكان الحسن يكرهه، ويجيزه في القضاء.
وقال مالك، والليث، والثوري، والشافعي، وأصحاب الرأي: ذلك جائز. وروي معنى ذلك عن شريح، وجابر بن زيد، والحسن بن صالح؛ لأن أبا بكر - رضي الله عنه - نحل عائشة ابنته جذاذ عشرين وسقًا، دون سائر ولده. واحتج الشافعي بقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير: «أشهد على هذا غيري»، فأمره بتأكيدها دون الرجوع فيها، ولأنها عطية تلزم بموت الأب، فكانت جائزة، كما لو سوّى بينهم.
ولنا ما روى النعمان بن بشير قال: «تصدق عليّ أبي ببعض ماله، فقالت أمي -عمرة بنت رواحة-: لا أرضى؛ حتى تشهد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقته، فقال: أكل ولدك أعطيت مثله؟ قال: لا. قال: فاتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم. قال: فرجع أبي، فردّ تلك الصدقة»، وفي لفظ قال: "فاردده"، وفي لفظ قال: "فأرجعه"، وفي لفظ: "لا تشهدني على جور"، وفي لفظ: "فأشهد على هذا غيري"، وفي لفظ: "سوِّ بينهم"، وهو حديث صحيح متفق عليه.
وهو دليل على التحريم؛ لأنه سماه جورًا، وأمر بردّه، وامتنع من الشهادة عليه، والجور حرام، والأمر يقتضي الوجوب؛ ولأن تفضيل بعضهم يورث بينهم العداوة، والبغضاء، وقطيعة الرحم، فمنع منه، كتزويج المرأة على عمتها أو خالتها. وقول أبي بكر لا يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يحتج به معه. ويحتمل أن أبا بكر - رضي الله عنه - خصها بعطيته لحاجتها، وعجزها عن الكسب، والتسبب فيه، مع اختصاصها بفضلها، وكونها أم المؤمنين زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من فضائلها.
ويحتمل أن يكون قد نحلها، ونحل غيرها من ولده، أو نحلها وهو يريد أن ينحل غيرها، فأدركه الموت قبل ذلك.
ويتعين حمل حديثه على أحد هذه الوجوه؛ لأن حمله على مثل محل النزاع منهي عنه، وأقل أحواله الكراهة، والظاهر من حال أبي بكر اجتناب المكروهات.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فأشهد على هذا غيري»، ليس بأمر؛ لأن أدنى أحوال الأمر الاستحباب والندب، ولا خلاف في كراهة هذا، وكيف يجوز أن يأمره بتأكيده، مع أمره برده، وتسميته إياه جورًا!؟ وحمل الحديث على هذا حمل لحديث النبي صلى الله عليه وسلم على التناقض، والتضاد.
ولو أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإشهاد غيره؛ لامتثل بشير أمره، ولم يردّ، وإنما هذا تهديد له على هذا، فيفيد ما أفاده النهي عن إتمامه. اهـ.
والأم كالأب سواء في وجوب العدل بين الأبناء، قال ابن قدامة: والأم في المنع من المفاضلة بين الأولاد كالأب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم». ولأنها أحد الوالدين، فمنعت التفضيل، كالأب، ولأن ما يحصل بتخصيص الأب بعض ولده من الحسد والعداوة، يوجد مثله في تخصيص الأم بعض ولدها؛ فثبت لها مثل حكمه في ذلك. اهـ. من المغني.
وبناء على ذلك؛ فلا يسوغ لأمّك أن تهبك نصيبها من البيت دون مسوغ شرعي.
مع التنبيه إلى أن مجرد كتابة عقار باسم الموهوب له؛ ليستحوذ عليه بعد موت الواهب، دون قبض له، وتمكن من التصرف فيه في حياة الواهب، لا يعد هبة صحيحة شرعًا، بل هو في حكم الوصية، والوصية لا تنفذ لوارث، إلا بإذن بقية الورثة، وراجع بيان هذا في الفتاوى: 340024، 311338، 277444.
والله أعلم.