الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فأول دين نزل من السماء هو دين أول الأنبياء، وهو أبونا آدم - عليه السلام -، فقد كان نبيًّا مكلَّمًا يُوحَى إليه، فعن أبي أمامة أن رجلًا قال: يا رسول الله، أنبي كان آدم؟ قال: "نعم، مكلم". قال: فكم كان بينه وبين نوح؟ قال: "عشرة قرون". رواه الطبراني في الأوسط، وصححه ابن حبان، والحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وابن كثير في البداية والنهاية، وقال الهيثمي: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح؛ غير أحمد بن خليد الحلبي، وهو ثقة. اهـ. وصححه الألباني بطرقه.
وجاء في رواية تسمية هذا السائل - وهو أبو ذر - قال: قلت:كم وفاء عدة الأنبياء؟ فقال: "مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا، والرسل من ذلك: ثلاثمائة وخمسة عشر، جمًّا غفيرًا". رواه أحمد، وصححه الألباني. وانظر الفتويين: 9475، 31905.
فهذا العدد الكبير من الرسل، فضلًا عن الأنبياء، وأولهم آدم -عليه السلام-، دينهم واحد، وهو توحيد الله تعالى، وإسلام الوجه له عز وجل، أما الشرائع فقد تختلف من نبي الى آخر. وانظري الفتويين: 77096، 69531.
وليس شرطًا أن يُنزَّل على كل نبي كتابٌ -كالقرآن، أو التوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم-، ولكن الشرط أن يوحى إليه بخبر السماء، ويؤيد بالبينات، كما قال تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ [فاطر:25]، قال البيضاوي في تفسيره: أنوار التنزيل: (بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات الشاهدة على نبوتهم. (وَبِالزُّبُرِ) كصحف إبراهيم -عليه السلام-. (وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) كالتوراة، والإِنجيل، على إرادة التفصيل دون الجمع، ويجوز أن يراد بهما واحد، والعطف لتغاير الوصفين. اهـ.
وقال الشهاب الخفاجي في حاشيته عليه: قوله: "على إرادة التفصيل" يعني ليس المراد أن كل رسول جاء بجميع ما ذكر؛ حتى يلزم أن يكون لكل رسول كتاب، وعدد الرسل أكثر بكثير من الكتب، كما هو معروف، بل المراد أن بعضهم جاء بهذا، وبعضهم جاء بهذا، ولا ينافي جمع بعضها لبعض آخر، كالكتاب مع المعجزة مثلًا، ومآله لمنع الخلو منها. اهـ.
وقال القاسمي في تفسيره: محاسن التأويل: ليس المراد أن كل رسول جاء بجميع ما ذكر؛ حتى يلزم أن يكون لكل رسول كتاب، بل المراد أن بعض الرسل جاء بهذا، وبعضهم جاء بهذا. وجوز أن يراد بالجميع واحد، والعطف لتغاير الأوصاف. اهـ.
وهذا الاحتمال الثاني قد قال به بعض أهل العلم، فقال الشوكاني في تفسيره: فتح القدير: (وأنزلنا معهم الكتاب) المراد الجنس، فيدخل فيه كتاب كل رسول. اهـ.
وقال ابن عثيمين في عقيدة أهل السنة والجماعة: ونؤمن بأن الله تعالى أنزل على رسله كتبًا؛ حجة على العالمين، ومحجة للعاملين، يعلمونهم بها الحكمة، ويزكونهم. ونؤمن بأن الله تعالى أنزل مع كل رسول كتابًا؛ لقوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}. اهـ.
وقال في شرح العقيدة الواسطية: لكل رسول كتاب، قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} [الحديد:25]، وهذا يدل على أن كل رسول معه كتاب، لكن لا نعرف كل الكتب، بل نعرف منها: صحف إبراهيم وموسى، التوراة، الإنجيل، الزبور، القرآن: ستة؛ لأن صحف موسى بعضهم يقول: هي التوراة، وبعضهم يقول: غيرها، فإن كانت التوراة، فهي خمسة، وإن كانت غيرها، فهي ستة، ولكن مع ذلك نحن نؤمن بكل كتاب أنزله الله على الرسل، وإن لم نعلم به، نؤمن به إجمالًا. اهـ.
وفي ذلك إشارة لخلاف أهل العلم في صحف موسى: هل هي التوراة أم غيرها؟ وقد سبق مثل ذلك في الفتويين: 39965، 167195.
والله أعلم.