الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن المأثور عن السلف تكفير القدرية المنكرة لعلم الله السابق بأفعال العباد، وأما القدرية الذين يثبتون علم الله بأفعال العباد، لكن ينكرون خلقه ومشيئته لها، فإن المشهور عن السلف عدم تكفيرهم، وإن حُكي عن بعضهم -كالإمام أحمد- روايتان في تكفيرهم.
قال ابن تيمية: ولهذا كفر الأئمة -كمالك والشافعي وأحمد- من قال: إن الله لم يعلم أفعال العباد حتى يعملوها بخلاف غيرهم من القدرية. اهـ. من مجموع الفتاوى.
وقال أيضا: والمأثور عن السلف والأئمة إطلاق أقوال بتكفير "الجهمية المحضة" الذين ينكرون الصفات. وأما الخوارج والروافض ففي تكفيرهم نزاع وتردد عن أحمد وغيره. وأما القدرية الذين ينفون الكتابة والعلم فكفروهم، ولم يكفروا من أثبت العلم ولم يثبت خلق الأفعال. اهـ.
وقال: ولم يكفر أحمد الخوارج ولا القدرية إذا أقروا بالعلم، وأنكروا خلق الأفعال، وعموم المشيئة، لكن حُكي عن أحمد في تكفيرهم روايتان. اهـ.
ووجه عدم تكفير القدرية المثبتة لعلم الله السابق: هو أن مناقضة قولهم للتوحيد خفية، وليس ظاهرة، ولما عندهم من أنواع الشبهة والتأويل التي تمنع القول بتكفيرهم.
وقد سئل الشيخ عبدالعزيز الراجحي: كيف اعتبرنا التأويل أو الشبهة في توحيد الربوبية فلم نكفر القدرية؟
فأجاب: القدرية شركهم في الربوبية شرك خفي، وليس شركا عاما، فهو شرك فيه تأويل، حيث حصلت لهم الشبهة، وهو زعمهم أن المعاصي إذا خلقها الله لا يستقيم أن يعذب عليها، والمعروف عند العلماء أن القدرية مبتدعة.
والقدرية طائفتان: الطائفة الأولى: القدرية الأولى، وهم الغلاة الذين أنكروا علم الله وكتابته، فهؤلاء كفار؛ لأن مراتب القدر أربع: علم الله بالأشياء قبل كونها، وكتابته لها في اللوح المحفوظ، والإرادة والمشيئة، والخلق.
فالقدرية الأولى الذين أنكروا المرتبتين الأوليين -العلم والكتابة- كفار؛ لأن من أنكر العلم فقد نسب الله إلى الجهل، وهذا كافر بالإجماع، وهم الذين قال فيهم الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروه كفروا.
أما القدرية المتأخرون فيقرون بعلم الله، وأن الله كتب الأشياء، وأن الله أراد الأشياء، وأن الله خلق الأشياء كلها، لكن بالنسبة لأفعال العباد خاصة حصلت لهم الشبهة بتأويل، ولو كان معتقدهم إنكارا من دون تأويل لكان كفرا، لكنه عن تأويل بسبب الشبهة التي عرضت لهم.
ومما يبين أن الشيء إذا كان خفيا قد يعذر صاحبه ما ثبت في الصحيحين في مواضع متعددة من قصة الرجل الذي كان من بني إسرائيل، فقال لبنيه: (إني أسرفت على نفسي، وإني أخاف أن يعذبني الله عذابا شديدا، فإذا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم اذروني في الهواء، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا شديدا، ففعل به بنوه لما مات ذلك، فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر الله البر فجمع ما فيه فإذا هو قائم، فسأله الله عن ذلك، فقال: ما الذي حملك على ذلك؟ قال: يا رب! مخافتك، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: فغفر الله له).
فهذا الرجل ما أنكر قدرة الله، وما أنكر البعث، وإنما أنكر كمال تفاصيل القدرة، وظن أنه إذا أحرق وذري لا يقدر الله عليه، وهو يعلم أنه لو لم يفعل به ذلك فإنه سيبعث، يقول: إذا ما أحرقتموني بعثني الله، لكن أحرقوني وذروني فلا يقدر الله على بعثي، والذي حمله على ذلك أمران: الجهل وخوف العذاب؛ لأن هذا الأمر خفي بالنسبة إليه، فلما كان الذي حمله عليه الجهل والخوف العظيم من الله غفر الله له.
فالشيء الخفي قد يعذر صاحبه، بخلاف الشيء الواضح، فلو أنكر أحد البعث كفر، أو أنكر قدرة الله كفر، وهذا مؤمن بالله ومؤمن بقدرة الله، وظن أنه إذا أحرق وذري في البر والبحر لا يقدر الله عليه، فكذلك القدرية حصلت لهم هذه الشبهة. اهـ.
وراجع للفائدة الفتاوى: 347914، 25436، 170039.
والله أعلم.