الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاعلم أن الله تعالى حكيم، يضع الأشياء في مواضعها، ويوقعها في مواقعها، وأنه سبحانه إنما يمنح نصره لمن نصره، وقام بحقه، فالاستخلاف في الأرض، والتمكين فيها؛ منوط بتحقيق التوحيد والإخلاص لله تعالى، وتكميل الإيمان وعمل الصالحات، كما قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا {النور:55}، وقال تعالى: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ {محمد:7}، فمتى نصر المسلمون دين ربهم، وقاموا بحقه كما ينبغي لم يتخلف عنهم النصر، وإنما أديل عليهم عدوهم وسلط على ما بأيديهم لما نكلوا عن تطبيق أوامر الله تعالى، واتخذوا شرع الله وراءهم ظهريا، والجزاء من جنس العمل، وسلط عليهم من لا يتقي الله فيهم لتقصيرهم في واجبات العبودية، كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ {الأنعام:129}.
قال ابن القيم -رحمه الله-: وليس في الحكمة الإلهيَّة أن يولَّى على الأشرار الفجَّار إلا من يكونُ من جنسهم . ولما كان الصَّدرُ الأوَّلُ خيارَ القرون وأبرَّها كانت ولاتُهم كذلك، فلمَّا شابوا شِيبَت لهم الولاة، فحكمةُ الله تأبى أن يولَّى علينا في هذه الأزمان مثلُ معاوية وعمر بن عبد العزيز، فضلًا عن مثل أبي بكرٍ وعمر، بل ولاتُنا على قَدْرِنا وولاةُ من قبلنا على قَدْرِهم، وكلٌّ من الأمرين مُوجَبُ الحكمة ومقتضاها، ومن له فطنةٌ إذا سافر بفكره في هذا الباب رأى الحكمةَ الإلهيَّة سائرةً في القضاء والقدر، ظاهرةً وباطنةً فيه، كما في الخلق والأمر سواء. فإياك أن تظنَّ بظنك الفاسد أنَّ شيئًا من أقضيته وأقداره عارٍ عن الحكمة البالغة، بل جميعُ أقضيته تعالى وأقداره واقعةٌ على أتمِّ وجوه الحكمة والصواب. انتهى
فإياك أن تظن بالله ظن السوء، وأنه لا ينصر دينه وأولياءه، ولكنه سبحانه يضع النصر والتوفيق في مواضعه، وكل ما يصيب المسلمين من هزيمة وتسليط لعدوهم إنما هو بذنوبهم، وما يعفو الله عنه أكثر، قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ {الشورى:30}. ولما أديل المشركون على المسلمين يوم أحد قال الله تعالى لهم: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ {آل عمران:165}، . وذلك بمعصيتهم أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتطلع بعضهم إلى الدنيا وحرصهم عليها.
قال ابن القيم: ثُمَّ كَرَّرَ عَلَيْهِمْ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذَا الَّذِي أَصَابَهُمْ إنَّمَا أُتُوا فِيهِ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ، وَبِسَبَبِ أَعْمَالِهِمْ، فَقَالَ: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165] [آلِ عِمْرَانَ: 165] ، وَذَكَرَ هَذَا بِعَيْنِهِ فِيمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، فَقَالَ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] [الشُّورَى: 30] ، وَقَالَ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] [النِّسَاءِ: 79] ، فَالْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ هَاهُنَا: النِّعْمَةُ وَالْمُصِيبَةُ، فَالنِّعْمَةُ مِنَ اللَّهِ مَنَّ بِهَا عَلَيْكَ، وَالْمُصِيبَةُ إنَّمَا نَشَأَتْ مِنْ قِبَلِ نَفْسِكَ وَعَمَلِكَ، فَالْأَوَّلُ فَضْلُهُ، وَالثَّانِي عَدْلُهُ، وَالْعَبْدُ يَتَقَلَّبُ بَيْنَ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ، جَارٍ عَلَيْهِ فَضْلُهُ مَاضٍ فِيهِ حُكْمُهُ، عَدْلٌ فِيهِ قَضَاؤُهُ. انتهى
ولله وراء ذلك من الحكم ما لا يعلمه غيره، ولا يحصيه سواه، فإياك أن تظن به ظن السوء، وعليك وعلى كل مسلم أن يعمل جاهدا لتحقيق هذا النصر، وذلك بنصر الله ما وسعه، ويكون ذلك بالامتثال لأوامر الله، وتعظيم شعائره، والحفاظ على تعاليم الإسلام، فيتعلم ما يلزمه، ويعمل به قدر طاقته، ويدعو إليه من حوله، فإذا صلح الأفراد والمجتمعات رجي حصول النصر من رب الأرض والسماوات، واجتهد في الدعاء لإخوانك المضطهدين، ونصرهم بما وسعك من صدقة، وبذل مال، وغير ذلك مما أمكن من وجوه النصر، واغضب لانتهاك محارم الله، فغضبك هذا علامة خير ودليل إيمان، لكن لا تيأس من حصول النصر، ولا تقنط من قرب الفرج، وانصر الله ما وسعك، وادع من حولك إليه، وإلى الاستقامة على شرعه تعالى، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
والله أعلم.