الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فيشرع للمسلم أن يهاجر من البلد المسلمة -إن كثرت فيها المعاصي، أو ظهرت فيها البدع- إلى بلد آخر يخلو من ذلك، أو يقلّ فيه ذلك؛ طلبًا للسلامة في دِينه، والإعانة على الخير والطاعة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: أحوال البلاد كأحوال العباد، فيكون الرجل تارة مسلمًا، وتارة كافرًا، وتارة مؤمنًا، وتارة منافقًا، وتارة برًّا تقيًّا، وتارة فاسقًا، وتارة فاجرًا شقيًّا، وهكذا المساكن بحسب سكانها. فهجرة الإنسان من مكان الكفر والمعاصي إلى مكان الإيمان والطاعة؛ كتوبته وانتقاله من الكفر والمعصية إلى الإيمان والطاعة، وهذا أمر باق إلى يوم القيامة. اهـ.
وقال القاضي أبو بكر ابن العربي في عارضة الأحوذي: روى أشهب عن مالك: "لا يقيم أحد في موضع يعمل فيه بغير الحق". فإن قيل: فإذا لم يوجد بلد إلا كذلك؟ قلنا: يختار المرء أقلها إثمًا، مثل أن يكون بلد به كفر، فبلد فيه جَور خير منه، أو بلد فيه عدل وحرام، فبلد فيه جور وحلال خير منه للمقام، أو بلد فيه معاصٍ في حقوق الله، فهو أولى من بلد فيه معاصٍ في مظالم العباد، وهذا الأنموذج دليل على ما وراءه. اهـ.
وأما حديث: لا هجرة بعد الفتح. فهو حديث متفق عليه، وليس معناه نفي مطلق الهجرة من أي بلد كان بعد فتح مكة، وإنما معناه: لا هجرة واجبة من مكة إلى المدينة؛ لأن مكة صارت دار إسلام.
وأما الهجرة من غيرها مما يعلو فيه الكفر، أو تظهر فيه المعاصي، فباقٍ إلى يوم القيامة، قال الطيبي في شرح المشكاة: المعنى: أن مفارقة الأوطان لله ورسوله التي هي الهجرة المعتبرة الفاضلة المميزة لأهلها من سائر الناس امتيازًا ظاهرًا، انقطعت، لكن المفارقة من الأوطان بسبب نية خالصة لله تعالى، كطلب العلم، والفرار بدِينه من دار الكفر، أو مما لا يقام فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وزيارة بيت الله، وحرم رسوله، والمسجد الأقصى، وغيرها، أو بسبب الجهاد في سبيل الله؛ باقية مدى الدهر. اهـ.
وراجع في تفصيل ذلك الفتاوى: 51487، 111225، 318871.
والله أعلم.