الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فبداية: ننبه على أن من أهل العلم من جعل يوم ابتداء الخلق هو أول أيام الأسبوع. ومن أهل العلم من فرّق بينهما، ومنهم أبو جعفر النحاس، فقد استحسن القول بأن أول أيام الخلق يوم الأحد، وأول أيام الأسبوع يوم السبت، فقال في «عمدة الكتاب»: اختلف المسلمون في اليوم الذي ابتدئ فيه الخلق، وفي أول الأيام! فقال قوم: أولها الأحد. وقال قومٌ: أولها السبت. وقال قومٌ: أول الأيام الأحد، وأول الجمعة السبت، وهذا أحسنها. اهـ. ذكر دليل ذلك تفصيلًا.
وعقد القلقشندي في «صبح الأعشى» مدركًا لبيان أول أيام الأسبوع، وما كان فيه ابتداء الخلق منها، فقال:
اختلف الناس في ذلك على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: أن أول أيام الأسبوع وابتداء الخلق: الأحد. واحتج لذلك بما تقدم من حديث ابن عباس أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فسألته عن خلق السماوات والأرض، فقال: «خلق الله عز وجل الأرض يوم الأحد ..» الحديث. وبحديثه الآخر: «خلق الله يومًا واحدًا، فسماه: الأحد». وإذا كان ابتداء الخلق الأحد، لزم أن يكون أول الأسبوع الأحد.
المذهب الثاني: أن أول أيام الأسبوع وابتداء الخلق: السبت. واحتج له بحديث أبي هريرة المتقدم: «أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، فقال: خلق الله التربة يوم السبت ..» الحديث. وإذا كان ابتداء الخلق السبت، لزم أن يكون أول الأسبوع السبت.
المذهب الثالث: أن أول أيام الأسبوع الأحد؛ لحديث «خلق الله يومًا واحدًا، فسماه: الأحد، ثم خلق ثانيًا، فسماه: الاثنين» الحديث. وابتداء الخلق يوم السبت؛ لحديث أبي هريرة المتقدم. قال النحاس: وهذا أحسنها. اهـ.
وقال السيوطي في «الشماريخ في علم التاريخ»: الأحد: هو أول الأيام. وفي شرح المهذب ما يقتضي أنه أول الأسبوع. وروى ابن عساكر في "تاريخه" بسنده إلى ابن عباس قال: أول ما خلق الله الأحد، فسمي: الأحد، وكانت العرب يسمونه: الأول. وقال متأخرو أصحابنا: إن أول الأسبوع السبت. وهو الذي في "الشرح"، و"الروضة"، و"المنهاج"؛ لحديث مسلم: "خلق الله التربة يوم السبت، والجبال يوم الأحد، والشجر يوم الاثنين، والمكروه يوم الثلاثاء، والنور يوم الأربعاء، وبثّ فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة. وقال ابن إسحاق: يقول أهل التوراة: ابتدأ الله الخلق يوم الأحد، ويقول أهل الإنجيل: يوم الاثنين، ونقول نحن المسلمون -فيما انتهى إلينا- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوم السبت. وروى ابن جرير، عن السدي، عن شيوخه: ابتدأ الله الخلق يوم الأحد. واختاره ومال إليه طائفة. وقال ابن كثير -وهو أشبه بلفظ الأحد؛ ولهذا يكمل الخلق يوم الجمعة، فاتّخذه المسلمون عيدهم، وهو اليوم الذي ضلّ عنه أهل الكتاب. قال: وأما حديث مسلم السابق، ففيه غرابة شديدة؛ لأن الأرض خلقت في أربعة أيام، ثم السماوات في يومين. وقد قال البخاري: قال بعضهم: عن أبي هريرة، عن كعب الأحبار، وهو أصح. اهـ.
وقد ذكر تفصيل هذا الخلاف الألوسي في "روح المعاني" عند قوله تعالى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ .. [فصلت:9]، ويذكره أيضا فقهاء الشافعية في كتاب الصوم، وفي كتاب النذر في مسألة: لو عيّن يومًا من أسبوع، ونذر صومه، والتبس عليه، وقالوا: ينبغي أن يصوم يوم الجمعة؛ لأنه آخر الأسبوع، فإن لم يكن هو المعين، أجزأه، وكان قضاء.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -كما في مجموع الفتاوى-: يقال في أول الأيام: يوم الأحد؛ فإن فيه -على أصح القولين- ابتدأ الله خلق السماوات والأرض وما بينهما، كما دل عليه القرآن والأحاديث الصحيحة؛ فإن القرآن أخبر في غير موضع: أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وقد ثبت في الحديث الصحيح المتفق على صحته: أن آخر المخلوقات كان آدم خلق يوم الجمعة. وإذا كان آخر الخلق كان يوم الجمعة، دل على أن أوله كان يوم الأحد؛ لأنها ستة.
وأما الحديث الذي رواه مسلم في قوله: {خلق الله التربة يوم السبت}، فهو حديث معلول، قدح فيه أئمة الحديث -كالبخاري، وغيره- ... وذكر ابن الجوزي في موضع آخر أن هذا قول ابن إسحاق، قال: وقال ابن الأنباري: وهذا إجماع أهل العلم. وذكر قولًا ثالثًا في ابتداء الخلق: أنه يوم الاثنين. وقاله ابن إسحاق، وهذا تناقض. وذكر أن هذا قول أهل الإنجيل، والابتداء بيوم الأحد قول أهل التوراة. وهذا النقل غلط على أهل الإنجيل، كما غلط من جعل الأول إجماع أهل العلم من المسلمين. وكأن هؤلاء ظنوا أن كل أمة تجعل اجتماعها في اليوم السابع من الأيام السبعة التي خلق الله فيها العالم، وهذا غلط؛ فإن المسلمين إنما اجتماعهم في آخر يوم خلق الله فيه العالم، وهو يوم الجمعة، كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة. اهـ.
وتلخص مما سبق أن الخلاف في أول أيام الأسبوع يكاد ينحصر في يومي الأحد، والسبت؛ ومن ثم يكون يوم الجمعة إما آخر أيام الخلق الستة، وإما اليوم الذي يليه، وهو آخر أيام الأسبوع؛ ولذلك فمن الفروع التي ذكرها الزركشي في «المنثور» تحت قاعدة: (ما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين): ولو نذر صوم يوم من الأسبوع ونسيه، صام آخر الأسبوع، وهو الجمعة. فإن يكن، فذاك، وإلا وقع قضاء. كذا قالوه، وهو بناء على أن أول الأسبوع السبت، والظاهر أنه لا يبرأ بيقين إلا بصوم الجمعة والسبت؛ للخلاف في أول الأسبوع. اهـ.
وهذا اليقين يقتضي حصر أول الأسبوع في هذين اليومين: السبت، والأحد.
وأما جعل يوم الجمعة هو أول أيام الأسبوع، فلم نجد من جزم به من أهل العلم، وقد قال العراقي في «طرح التثريب»: إن قلت: ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «فالناس لنا فيه تبع»؟
قلت: الظاهر أن معناه: إنا أول من هداه الله للجمعة، وأقام أمرها، وعظم حرمتها، فمن فعل ذلك، فهو تبع لنا ... ويحتمل أن يستدل به على أن الجمعة أول الأسبوع، ولا أعلم قائلًا به اهـ.
والأسبقية أو الأوليَّة التي يدل عليها هذا الحديث: فالناس لنا فيه تبع: اليهود غدًا، والنصارى بعد غد. رواه البخاري ومسلم.
يمكن حملها على الأفضلية، والابتداء الشرعي لا الوجودي، قال عبد الحق الدهلوي في «شرح مشكاة المصابيح»: التبعية باعتبار الفضل، والقبول، والطاعة التي حرمها أهل الكتاب. وقيل: الجمعة وإن كان مسبوقًا بسبت أو أحد قبله، لكن لا يتصور اجتماع الأيام الثلاثة متوالية إلا ويكون يوم الجمعة سابقًا، وقد يقال: هذا الحديث يدل على أن الجمعة أول الأسبوع شرعًا، وتدل عليه تسمية الأسبوع بالجمعة، كما يسمى اليهود الأسبوع بالسبت. اهـ.
وهذا الأخير هو ما ذهب إليه الحافظ ابن حجر، فقال في «فتح الباري»: فيه أن الجمعة أول الأسبوع شرعًا، ويدل على ذلك تسمية الأسبوع كله جمعة، وكانوا يسمون الأسبوع سبتًا، كما سيأتي في الاستسقاء في حديث أنس، وذلك أنهم كانوا مجاورين لليهود، فتبعوهم في ذلك. اهـ.
والله أعلم.