الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد بينا في فتاوى سابقة أن الواجب على من نذر نذرا أن يفي بما نذر، إذا كان قد حصل شرطه، وأن الذي يستطيع الوفاء بنذره، وتعمد عدم الوفاء يعرض نفسه للعقاب، وعدم الوفاء بالنذر من سمات المنافقين قال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ {التوبة 75 :77}، وانظر الفتاوى: 104961، 163017، 33849.
لكن عدم الوفاء بالنذر مع القدرة عليه لا يعد نفاقا مخرجا من الملة، إذ قد نص أهل العلم على أن النفاق إذا كان في الأعمال فهو معصية، وليس كفرا مخرجا من الملة.
قال القرطبي: النفاق إذا كان في القلب فهو الكفر، فأما إذا كان في الأعمال فهو معصية، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر. أخرجه البخاري. ابن العربي: قد قام الدليل الواضح على أن متعمد هذه الخصال لا يكون كافرا، وإنما يكون كافرا باعتقاد يعود إلى الجهل بالله وصفاته، أو تكذيب له -تعالى الله وتقدس- عن اعتقاد الجاهلين، وعن زيغ الزائغين. انتهى.
وقد عد بعض أهل العلم عدم الوفاء بالنذر مع القدرة على الوفاء به من كبائر الذنوب.
قال ابن حجر الهيتمي في الزواجر: الْكَبِيرَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ: عَدَمُ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ؛ سَوَاءٌ أَكَانَ نَذْرَ قُرْبَةٍ، أَمْ نَذْرَ لَجَاجٍ. وَعَدُّ هَذَا ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ امْتِنَاعٌ مِنْ أَدَاءِ حَقٍّ لَزِمَهُ عَلَى الْفَوْرِ، فَهُوَ كَالِامْتِنَاعِ عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، إذْ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّ النَّذْرَ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكَ وَاجِبِ الشَّرْعِ فِي أَحْكَامِهِ فَكَذَلِكَ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكَ الْوَاجِبِ فِي عَظِيمِ إثْمِ تَرْكِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ تَرْكَهُ كَبِيرَةٌ وَفِسْقٌ. انتهى.
وأما المقصود بقوله تعالى: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ {التوبة:77}. فإليك بعض كلام أهل التفسير فيها.
قال العلامة محمد الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير: فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً جَعَلَ نِفَاقًا عَقِبَ ذَلِكَ أَيْ إِثْرَهُ .. أَيْ جَعَلَ فِعْلَهُمْ ذَلِكَ سَبَبًا فِي بَقَاءِ النِّفَاقِ فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى مَوْتِهِمْ .. ويُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُطْلِقَ النِّفَاقُ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ إِطْلَاقٌ مَوْجُودٌ فِي عصر النبوءة، كَقَوْلِ حَنْظَلَةَ بْنِ الرَّبِيعِ لِلنَّبِي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يَا رَسُولَ اللَّهِ «نَافَقَ حَنْظَلَةُ». وَذَكَرَ ارْتِكَابَهُ فِي خَاصَّتِهِ مَا ظَنَّهُ مَعْصِيَةً، وَلَمْ يُغَيِّرْ عَلَيْهِ النَّبِي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَكِنْ بَيَّنَ لَهُ أَنَّ مَا تَوَهَّمَهُ لَيْسَ كَمَا تَوَهَّمَهُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَسْلَمُوا، وَبَقُوا يَرْتَكِبُونَ الْمَعَاصِيَ، خِلَافَ حَالِ أَصْحَابِ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقد يومئ إِلَى هَذَا تَنْكِيرُ نِفاقاً الْمُفِيدُ أَنَّهُ نِفَاقٌ جَدِيدٌ. انتهى مختصرا.
والله أعلم.