الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإنه لا إثم على المسلم بمجرد المشي في الطرقات، أو الوقوف بها، والجلوس فيها، ولو كان بها نساء متبرّجات، وإنما الواجب على المسلم أن يغضّ بصره عن المحرّم، وعليه كذلك الإنكار بقدر وسعه، وبما لا يوقعه في الحرج والمشقة.
وأما الحديث المروي في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والجلوس بالطرقات، قالوا: يا رسول الله، ما لنا بدّ من مجالسنا نتحدث فيها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أبيتم إلا المجلس، فأعطوا الطريق حقّه. قالوا: وما حقّه؟ قال: غضّ البصر، وكفّ الأذى، وردّ السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
فإن النهي فيه ليس على سبيل التحريم، وإنما للتنزيه والإرشاد؛ وذلك لما يخشى على الجالس في الطرقات من الضعف، والتفريط في القيام بالحقوق الواجبة المذكورة في الحديث، قال القرطبي في المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم: العلماء فهموا: أن ذلك المنع ليس على جهة التحريم، وإنما هو من باب سدّ الذرائع، والإرشاد إلى الأصلح؛ ولذلك قالوا: إنما قعدنا لغير ما بأس، قعدنا نتذاكر ونتحدّث، أي: نتذاكر العلم والدِّين، ونتحدّث بالمصالح والخير، ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم منهم ذلك، وتحقّق حاجتهم إليه؛ أباح لهم ذلك، ثم نبّههم على ما يتعيّن عليهم في مجالسهم تلك من الأحكام.
وهذه الحقوق كلها واجبة على من قعد على طريق. ولما كان القعود على الطريق يفضي إلى أن تتعلّق به هذه الحقوق، ولعلّه لا يقوم ببعضها، فيتعرض لذمّ الله تعالى، ولعقوبته؛ كره القعود فيها، وغلّظ بالزجر المتقدم، والإنكار، فإن دعت إلى ذلك حاجة، كالاجتماع في مصالح الجيران، وقضاء حوائجهم، وتفقّد أمورهم، إلى غير ذلك، قعد على قدر حاجتهم، فإن عرض له شيء من تلك الحقوق، وجب القيام به عليه. اهـ.
وفي فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر: وقد تبين من سياق الحديث أن النهي عن ذلك للتنزيه؛ لئلا يضعف الجالس عن أداء الحق الذي عليه. اهـ.
وأما تفضيل الوقوف على المشي، فلا أساس له، ولا علاقة للحديث الذي ذكرته بالمشي في الطرقات.
فقوله -صلى الله عليه وسلم-: ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرّف لها تستشرفه، فمن وجد منها ملجأ، أو معاذًا، فليعذ به. متفق عليه.
المراد بالفتن فيه: الاقتتال بين المسلمين في طلب الملك، قال ابن حجر في فتح الباري: والمراد بالفتنة ما ينشأ عن الاختلاف في طلب الملك، حيث لا يعلم المحق من المبطل. اهـ.
وذكر القيام والقعود والمشي هو على سبيل ضرب المثال في الإسراع في الفتن، وليس المراد به حقيقة المشي والقيام، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: هذا على وجه ضرب المثال في الإسراع في الفتن. اهـ.
وفي الإفصاح عن معاني الصحاح لابن هبيرة: وأراد بهذه الألفاظ -صلى الله عليه وسلم- أن كل حركة في الفتن فتنة، ويصل من الشر إلى التحرك فيها بمقدار حركته منها. اهـ.
وأما قولك: (أم لا يخرج أصلًا؟ علمًا أنه عزب): فإن اجتناب الخروج لغير حاجة إلى الطرقات التي هي مظنّة لوجود المتبرّجات، من الورع الحسن المحمود.
وأما الامتناع عن الخروج إلى الطرقات مطلقًا مع وجود الحاجة والمصلحة الراجحة؛ فهذا من التعمّق والغلوّ المذموم شرعّا.
وانظر للفائدة الفتاوى: 135799، 75805، 112579.
والله أعلم.