الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن لبني إسرائيل تاريخًا طويلًا في نقض العهود، والمواثيق، وفي مخالفة أوامر الله تعالى، وتعدي حدوده، وفي قتل الأنبياء، والرسل، والذين يأمرون بالقسط من الناس.
وقد استعرض القرآن الكريم كثيرًا من أفعالهم الشنيعة، وإجرامهم مع أنبيائهم، ورسلهم، وسلّط الضوء على مواقفهم المنحرفة إزاء نعم الله تعالى عليهم التي لا تحصى، والتي من جملتها: اختياره لهم على عالم زمانهم، وتفضيلهم عليهم: بأن جعل منهم الأنبياء، وجعلهم ملوكًا، كما قال تعالى حاكيًا عن موسى -عليه السلام- يذكّرهم بتلك الآلاء، والنعم: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ {المائدة:20}، وما زال القرآن يذكّرهم بتلك النعم، ويطالبهم بالوفاء بعهد الله، وميثاقه في إيمانهم بخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، الذي يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، لكن أبى منبت العيدان أن يتغيرا.
إن طباع اليهود لا تعرف الوفاء، وإنما تعرف الغدر، والانحراف، والالتواء.
ويلاحظ أن القرآن الكريم خاطب اليهود في عصر النبوة بما فعل آباؤهم، وأجدادهم، كأنهم هم الذين ارتكبوا ما ارتكب أولئك؛ مما يدل على أن لليهود طبيعة واحدة، لا تتغير، ولا تتبدل، فهم هم في كل عهد، وفي كل مصر، فبدل أن يوفوا بعهدهم، ويستجيبوا إلى ربهم، ويتبعوا الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة، كفروا، وتولوا، وكادوا له أشد الكيد، وأخبثه، ونكثوا عهودهم معه، وقد سجل عليهم القرآن الكريم استهتارهم بدينهم، مما حملهم على تبديل كتاب ربهم، وتحريفه؛ ابتغاء منافع دنيوية، ومكاسب تافهة، فيقول الله عنهم: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ {البقرة:79}.
كما سجل عليهم من السفاهة، والوقاحة ما لم يسبقهم إليه أحد؛ حتى لقد بلغوا في ذلك أن وصفوا ربهم الذي خلقهم بالبخل ـ قاتلهم الله ـ، كما قال تعالى حاكيًا عنهم: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ {المائدة:64}، ووصفوه بالفقر ـ تعالى عما يقولون علوًّا كبيرًا ـ كما قال: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ {آل عمران:181}.
واعتناء القرآن الكريم بالكشف عن طبيعة اليهود، وجبلتهم، واهتمامه بإلقاء الضوء على أخلاقهم، وأفعالهم، فيه توجيه للمسلمين، وتحذير لهم بأن لا ينخدعوا بمعسول القول من اليهود، ولا يغتروا منهم بمواثيق، ولا عهود، فعهودهم كلها إلى النقض صايرة، ومواثيقهم إلى النكث آيلة، كما قال عنهم سبحانه: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ {البقرة:100}.
والله أعلم.