الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن الألعاب ليست كلها محرمة، بل قد نص العلماء على أن الأصل في الألعاب هو الإباحة، إلا ما قام فيه موجِب على التحريم.
جاء في كشاف القناع: وسائر اللعب إذا لم يكن فيه ضرر ولا شغل عن واجب؛ فالأصل إباحته. اهـ. وانظر في ضوابط إباحة الألعاب الفتوى: 253738.
وأما الشطرنج: فإن كان اللعب بها على عوض؛ فإنه محرم باتفاق العلماء، وأما إن كان اللعب بالشطرنج على غير عوض: فمختلف في حكمه، فالجمهور على حرمة اللعب بها، ولو دون عوض، وسبب التحريم: ما يؤدي إليه اللعب بها من مفاسد -من إيقاع العداوة، والبغضاء، والصد عن ذكر الله، وعن الصلاة-، وما جاء في النصوص من النهي عن النرد، وما جاء من الآثار عن الصحابة في النهي عن الشطرنج.
قال ابن تيمية: اللعب بها: منه ما هو محرم متفق على تحريمه: ومنه ما هو محرم عند الجمهور؛ ومكروه عند بعضهم؛ وليس من اللعب بها ما هو مباح مستوي الطرفين عند أحد من أئمة المسلمين.
فإن اشتمل اللعب بها على العوض كان حراما بالاتفاق؛ قال أبو عمر بن عبد البر إمام المغرب: أجمع العلماء على أن اللعب بها على العوض قمار لا يجوز.
وكذلك لو اشتمل اللعب بها على ترك واجب، أو فعل محرم: مثل أن يتضمن تأخير الصلاة عن وقتها؛ أو ترك ما يجب فيها من أعمالها الواجبة باطنا أو ظاهرا؛ فإنها حينئذ تكون حراما باتفاق العلماء...
وكذلك لو شغل عن واجب من غير الصلاة: من مصلحة النفس أو الأهل أو الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر أو صلة الرحم؛ أو بر الوالدين أو ما يجب فعله من نظر في ولاية أو إمامة أو غير ذلك من الأمور. وقلَّ عبد اشتغل بها إلا شغلته عن واجب. فينبغي أن يعرف أن التحريم في مثل هذه الصورة متفق عليه...
وإذا قدر خلوها عن ذلك كله: فالمنقول عن الصحابة المنع من ذلك؛ وصح عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ شبههم بالعاكفين على الأصنام كما في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {شارب الخمر كعابد وثن} والخمر والميسر قرينان في كتاب الله تعالى. وكذلك النهي عنها معروف عن ابن عمر وغيره من الصحابة. والمنقول عن أبي حنيفة وأصحابه وأحمد وأصحابه " تحريمها ". وأما الشافعي فإنه قال: أكره اللعب بها؛ للخبر؛ واللعب بالشطرنج والحمام بغير قمار وإن كرهناه أخف حالا من النرد وهكذا نقل عنه غير هذا اللفظ مما مضمونه: أنه يكرهها ويراها دون النرد ولا ريب أن كراهته كراهة تحريم؛ فإنه قال: للخبر. ولفظ الخبر الذي رواه هو عن مالك {من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله}... وقد تنازع الجمهور هل يسلم على اللاعب بالشطرنج؟ فمنصوص أبي حنيفة وأحمد والمعافى بن عمران وغيرهم: أنه لا يسلم عليه. ومذهب مالك وأبي يوسف ومحمد: أنه يسلم عليه...
وبهذا يتبين ما ذكر العلماء من أن المغالبات ثلاثة أنواع. فما كان معينا على ما أمر الله به في قوله: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل} جاز بجعل وبغير جعل.
وما كان مفضيا إلى ما نهى الله عنه: كالنرد والشطرنج: فمنهي عنه بجعل وبغير جعل.
وما قد يكون فيه منفعة بلا مضرة راجحة: كالمسابقة والمصارعة: جاز بلا جعل.
وقول القائل: إن الميسر إنما حرم لمجرد المقامرة دعوى مجردة، وظاهر القرآن والسنة والاعتبار يدل على فسادها. وذلك أن الله تعالى قال: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة} . فنبه على علة التحريم وهي ما في ذلك من حصول المفسدة وزوال المصلحة الواجبة والمستحبة، فإن وقوع العداوة والبغضاء من أعظم الفساد. وصدود القلب عن ذكر الله وعن الصلاة اللذين كل منهما إما واجب وإما مستحب من أعظم الفساد.
ومن المعلوم أن هذا يحصل في اللعب بالشطرنج والنرد ونحوهما وإن لم يكن فيه عوض، وهو في الشطرنج أقوى؛ فإن أحدهم يستغرق قلبه وعقله وفكره فيما فعل خصمه وفيما يريد أن يفعل هو، وفي لوازم ذلك ولوازم لوازمه حتى لا يحس بجوعه ولا عطشه ولا بمن يسلم عليه ولا بحال أهله ولا بغير ذلك من ضرورات نفسه وماله فضلا أن يذكر ربه أو الصلاة.
وهذا كما يحصل لشارب الخمر؛ بل كثير من الشراب يكون عقله أصحى من كثير من أهل الشطرنج والنرد. واللاعب بها لا تنقضي نهمته منها إلا بدست بعد دست؛ كما لا تنقضي نهمة شارب الخمر إلا بقدح بقدح وتبقى آثارها في النفس بعد انقضائها أكثر من آثار شارب الخمر حتى تعرض له في الصلاة والمرض وعند ركوب الدابة؛ بل وعند الموت؛ وأمثال ذلك من الأوقات التي يطلب فيها ذكره لربه وتوجهه إليه. تعرض له تماثيلها وذكر الشاه والرخ والفرزان ونحو ذلك.
فصدها للقلب عن ذكر الله قد يكون أعظم من صد الخمر، وهي إلى الشرب أقرب كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه للاعبيها: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون وقلب الرقعة وكذلك العداوة والبغضاء بسبب غلبة أحد الشخصين للآخر وما يدخل في ذلك من التظالم والتكاذب والخيانة التي هي من أقوى أسباب العداوة والبغضاء، وما يكاد لاعبها يسلم عن شيء من ذلك. والفعل إذا اشتمل كثيرا على ذلك وكانت الطباع تقتضيه ولم يكن فيه مصلحة راجحة حرمه الشارع قطعا، فكيف إذا اشتمل على ذلك غالبا؟ وهذا أصل مستمر في أصول الشريعة .اهـ. باختصار من مجموع الفتاوى.
وانظر الفتوى: 136937.
والله أعلم.