الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما أن العباس بن عبد المطلب ـ رضي الله عنه ـ قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أغنيت عن عمك، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار.
وفي الصحيحين أيضا عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم ـ وذكر عنده عمه ـ فقال: لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه، يغلي منه دماغه.
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أهون أهل النار عذابا أبو طالب، وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه.
وأما الآية التي ذكرتها أولا، وهي قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ {آل عمران:91}.
فلا معارضة بينها وبين تلك الأحاديث، فهي عن الافتداء في الآخرة، وليست عن عمل الكافر في الدنيا، قال ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير: ومعنى: فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ـ لن يقبل منهم بشيء يفتدون به في الآخرة، لظهور أن ليس المراد نفي قبول الافتداء في الدنيا، ضرورة أنهم وصفوا بأنهم ماتوا وهم كفار... فقوله: ولو افتدى به ـ جواب سؤال متعجب من الحكم، وهو قوله: فلن يقبل من أحدهم ـ فكأنه قال: ولو افتدى به؟ فأجيب بتقرير ذلك، فمفاد هذا الشرط حينئذ مجرد التأكيد. اهـ.
وأما قوله سبحانه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ {فاطر:36}.
فالآية تبين أن الكافر إذا رأى العذاب ودخل النار، فلا يخفف عنه العذاب الذي كتب الله عليه بانقطاعه أو تقليل شدته، قال الرازي في تفسيره: بعضهم حمل التخفيف على أنه لا ينقطع، بل يدوم، لأنه لو انقطع لكان قد خف، وحمله آخرون على شدته، لا على دوامه، والأولى أن يقال: إن العذاب قد يخف بالانقطاع، وقد يخف بالقلة في كل وقت، أو في بعض الأوقات، فإذا وصف تعالى عذابهم بأنه لا يخفف، اقتضى ذلك نفي جميع ما ذكرناه .اهـ.
وقد قال سبحانه: وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ {النحل:85}.
قال الرازي في تفسيره: والمعنى: أن المشركين إذا رأوا العذاب ووصلوا إليه، فعند ذلك لا يخفف عنهم العذاب. اهـ.
فيظهر مما سبق أن آيات نفي تخفيف العذاب عن الكفار لا تقتضي نفي أن ما يبذله الكافر في الدنيا من نصرة للمسلمين ونحو ذلك قد يكون سببا لأن يقضي الله له عذابا أخف من العذاب الذي كان سيُقضى عليه به لو لم يعمل تلك الأعمال، كما رجحه بعض العلماء، جاء في فتح الباري لابن حجر: قال البيهقي: ما ورد من بطلان الخير للكفار فمعناه أنهم لا يكون لهم التخلص من النار ولا دخول الجنة، ويجوز أن يخفف عنهم من العذاب الذي يستوجبونه على ما ارتكبوه من الجرائم سوى الكفر بما عملوه من الخيرات، وأما عياض: فقال انعقد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم ولا يثابون عليها بنعيم ولا تخفيف عذاب، وإن كان بعضهم أشد عذابا من بعض، قلت: وهذا لا يرد الاحتمال الذي ذكره البيهقي، فإن جميع ما ورد من ذلك فيما يتعلق بذنب الكفر، وأما ذنب غير الكفر، فما المانع من تخفيفه؟ وقال القرطبي: هذا التخفيف خاص بهذا وبمن ورد النص فيه. اهـ.
وأما على القول بنفي انتفاع الكافر بأعماله في الآخرة مطلقا: فإنه يجاب بأن تخفيف العذاب عن أبي طالب مخصوص من العمومات - كما شار إليه القرطبي ـ وجاء في إرشاد الساري للقسطلاني: واستشكل قوله: تنفعه شفاعتي ـ مع قوله تعالى: فما تنفعهم شفاعة الشافعين {المدثر 48} وأجيب: بأن منفعة الآية بالإخراج من النار، وفي الحديث بالتخفيف، أو يخص عموم الآية بالحديث، أو أن أبا طالب لما بالغ في إكرام النبي صلى الله عليه وسلم والذب عنه جوزي بالتخفيف وأطلق على ذلك شفاعة، أو أن جزاء الكافر من العذاب يقع على كفره وعلى معاصيه، فيجوز أن يضع الله عن بعض الكفار بعض جزاء معاصيه تطييبا لقلب الشافع، لا ثوابا للكافر، لأن حسناته صارت بموته على الكفر هباء منثورا، لكنهم قد يتفاوتون، فمن كانت له حسنات من عتق، أو مواساة مسلم، ليس كمن ليس له ذلك، فيحتمل أن يجازى بالتخفيف بمقدار ما عمل، لكنه معارض بقوله تعالى: ولا يخفف عنهم من عذابها {فاطر 36}. اهـ.
والله أعلم.