الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالقرآن المجيد أنزل على أوجه، كلها من عند الله، تكلّم بها حقيقة، وتلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل بهذه الأوجه كلها، وأقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه جميعًا، فكل واحد منهم يقرأ بوجه منها.
ولما كتب الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- المصحف الإمام، لم يمكنه أن يجمع هذه القراءات في مصحف واحد؛ لأن هذا يتطلب أن تكتب الكلمة ذات الوجهين مرتين، فكتبه على لغة قريش، وأمر باستنساخ نسخ منه للأمصار، وفرّق أوجه القراءات الصحيحة كلها في هذه النسخ؛ فجاءت بعض الكلمات مثبتة في بعض النسخ، ومحذوفة في بعضها.
وأما القراءات المشهورة، فهي روايات ووجوه متعلقة بطريقة الأداء، وكل قراءة منها نسبت لشيخ متقن تلقاها الناس وضبطوها عنه، وإن كان غيره ممن لا يُحصَون كثرةً يقرؤون بالقراءة نفسها؛ لأنها متواترة.
ثم القارئ الواحد تلقى عن مشايخه بعض الألفاظ على وجهين، أو أكثر، فأخذت عنه روايتان، أو أكثر في هذه الألفاظ، وتلقّاها عنه كثير من الناس؛ فنسبت كل رواية منها لشيخ مشهور بالإتقان من تلامذته تلقاها الناس عنه، ونسبوها إليه؛ لتضبط روايته، وتميز عن غيرها، ثم الراوي الواحد قد تتعدد عنه الطرق في بعض الألفاظ، وهكذا.
فالمراد بذكر الطرق والروايات والقراءات إنما هو الضبط، والإتقان، وراجع في بيان ذلك الفتاوى: 11163، 361819، 335257، 443368.
وهنا لا بد من لفت النظر إلى أن القراءات المتواترة ليست هي الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، وإنما هي حرف من هذه الأحرف، وهو الحرف الموافق للعرضة الأخيرة التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل، ولم يبق من الأحرف الستة الأخرى إلا ما احتمله الرسم العثماني للمصحف، وراجع في تفصيل ذلك الفتاوى: 378853، 142339، 435859.
وإذا تبين ذلك، فقول السائلة: (سبب تعدد القراءات هو اختلاف لهجات العرب) صوابه: أن ذلك في تعدد الأحرف التي نزل بها القرآن، وليس في تعدد القراءات.
وأما قول السائلة: (فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يقرئ جميع الصحابة بنفس القراءة)، فصحيح، ولكنها حُفظت في الأمة، وضبطها أهل العلم، وبينوا ما يستفاد من تعدد هذه القراءات من المعاني، والأحكام.
والله أعلم.