الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الإنسان لو ذهب لاحتمال كل ما تفرضه أذهان الناس من تصورات وافتراضات، لم يقف عند حد، ولم يكن لأفكاره سقف! وخصوصا إذا تعلق ذلك بأمور غيبة تتسع للسخافات والخرافات، ومن يثبت حادثة انشقاق القمر، ويقر برؤية الناس له على اختلاف أماكنهم، وينفي أن يقع ذلك بتأثير السحر؛ لعمومه وتعلقه بآية سماوية: لا يسعه إلا أن يقر بأن ذلك فوق قدرة الخلق، وأنه أمر معجز، وبرهان على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول من عند الله الذي هو على كل شيء قدير، هذا هو منطق العقل ومقتضى الفكر السليم، ولا يمكن لمن يحترم دلالة العقل والواقع المشهود، أن يذهب بعد ذلك لافتراض احتمالات هي أبعد وأضعف مما استبعده! كمن يستبعد تأثير السحر، ثم يفترض تأثير الجن، وإنما الجن أداة السحر، فمن يمكنه تسخير الجن في عموم البشر، يمكن توجيه السحر لهم، ولذلك اكتفى أعداء النبي صلى الله عليه وسلم من كفار مكة بنفي السحر، برغم معرفتهم بوجود الجن وقدرتهم، كما قال عبد الله بن مسعود: انشق القمر ونحن بمكة، فقال كفار قريش من أهل مكة: هذا سحر سحرنا به ابن أبي كبشة، فانظروا إلى السُّفَّارِ يأتونكم، فإن أخبروكم أنهم رأوا مثل ما رأيتم، وإلا فقد كُذِبتم، فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، قال: فما جاءهم أحد من وجه من الوجوه إلا أخبرهم أنهم رأوا مثل ما رأوا. رواه الشاشي، والطيالسي، والبزار، والبيهقي في الدلائل، وصححه الشيخ الدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي في الجامع الكامل في الحديث الصحيح الشامل.
ومع ذلك؛ فإن إثبات قدرة الجن على حجب الرؤية عن عموم البشر، هي نفسها دعوى تفتقر إلى برهان! وإن ثبتت فإن إثبات قدرة أحد من البشر على تسخير الجن لهذا الغرض بهذه الطريقة، هي الأخرى دعوى عارية من الدليل، وإن ثبتت فإن ذلك بحد ذاته معجزة وبرهان على التأييد الإلهي، كما وقع مع نبي الله سليمان عليه السلام.
والله أعلم.