الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فوظيفة الأصولي بيان ما يصلح أن يكون حجة تثبت بها الأحكام. وليست الحجة مقتصرة على الحديث الصحيح، فقد تكون في قول الصحابي، أو في الإجماع، أو في كلام العرب، أو غير ذلك من الأدلة التي يقررها الأصوليون في كتبهم.
هذا، والاحتجاج بالحديث المرسل بالشروط المذكورة، لا يعني بالضرورة اعتقاد صحته في نفسه.
والإمام الشافعي يقبل الحديث، ويحتج به إذا روي من وجهين مرسلين يعتضد أحدهما بالآخر، وكان مُرسِله من كبار التابعين، وهو مَن تكون أكثر روايته عن الصحابة.
قال الشافعي -رحمه الله تعالى- في كتابه (الرسالة): المنقطع مختلف؛ فمَن شاهدَ أصحابَ رسول الله من التابعين، فحدَّث حديثًا منقطعًا عن النبي: اعتُبر عليه بأمور:
منها: أن ينظر إلى ما أَرسل مِن الحديث، فإن شَركه فيه الحفاظ المأمونون، فأسندوه الى رسول الله بمثل معنى ما روى؛ كانت هذه دلالةً على صحة مَن قبل عنه وحفظه.
وإن انفرد بإرسال حديث لم يَشركه فيه من يُسنده؛ قُبِل ما ينفرد به من ذلك. ويُعتبر عليه بأن ينظر: هل يوافقه مرسل غيره ممن قُبل العلم عنه من غير رجاله الذين قُبل عنهم؟ فإن وُجد ذلك كانت دلالةً يقوى له مرسله، وهي أضعف من الأولى.
وإن لم يُوجَد ذلك نُظر إلى بعض ما يُروى عن بعض أصحاب رسول الله قولًا له، فإن وُجد يُوافق ما روى عن رسول الله كانت في هذه دلالةٌ على أنه لم يأخذ مرسَلَه إلا عن أصل يصح إن شاء الله. انتهى.
وقال الحافظ ابن كثير معلقًا على احتجاج الإمام الشافعي بالحديث المرسل في كتابه (الباعث الحثيث): وَالَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ كَلَامَهُ فِي (الرِّسَالَةِ): أَنَّ مَرَاسِيلَ كِبَارِ التَّابِعِينَ حُجَّةٌ إِنْ جَاءَتْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَلَوْ مُرْسَلَةً، أَوْ اِعْتَضَدَتْ بِقَوْلِ صَحَابِيٍّ، أَوْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، أَوْ كَانَ الْمُرْسِلُ لَوْ سَمَّى لَا يُسَمِّي إِلَّا ثِقَةً، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُرْسَلُهُ حُجَّةً، وَلَا يَنْتَهِضُ إِلَى رُتْبَةِ المتصل. انتهى.
ثم إن كون الشافعي -رحمه الله- يرى الاحتجاج بالمرسل وفق ما ذكر، أو تصحيحه، فلا يلزم منه متابعة غيره له على ذلك، وهكذا سائر الإئمة وإلا فلم اختلافهم؟
والله أعلم.