الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فنشكر الأخ الكريم على تواصله وحرصه على معرفة الحق، ونقول له: ما ذكرته في سؤالك من بيان لرأي العلماء الأجلاء وهو التفريق بين الحكم العام والحكم على المعين، وبين الحكم على الفعل والحكم على الفاعل سواء كان ذلك في الكفر أو الفسوق ونحوهما هو ما نعتقده وندين الله به وندعو إليه، وأكبر شاهد على ذلك هو ما تجده في كثير من فتاوينا المنشورة على موقعنا ومن ذلك على سبيل المثال فتوى رقم: 721، والتي فيها التفريق بين الحكم بالكفر على الفعل دون تنزيله على الفاعل إلا بعد التحقق من توفر الشروط وانتفاء الموانع، ومن الموانع الجهل بالحكم الشرعي؛ إلا أن لمانع التكفير بالجهل ضابطا مهماً غفلت عنه أخي السائل وهو الذي سبب لك الخلط فيما ذكرناه في الفتوى السابقة والتي حكمنا فيها بالكفر على ساب الدين وأنه غير معذور بالجهل أو الغضب، وهذا الضابط هو ( لا يعذر بالجهل من يعيش في أوساط المسلمين في الأمور المشهورة المعلومة من الدين بالضرورة) ومما لا شك فيه أن حرمة سب الدين من المسائل المشهورة المعلوم حرمتها من الدين بالضرورة، ولا يمكن أن يجهلها مسلم يعيش في أوساط المسلمين، وقد بينا هذا الموضوع بوضوح في الفتوى رقم: 19084، ولسماحة الشيخ ابن باز كلام نحو ما ذكرناه وهذا نصه( دعوى الجهل والعذر به فيه تفصيل، وليس كل واحد يعذر بالجهل، فالأمور التي جاء بها الإسلام وبينها الرسول للناس وأوضحها كتاب الله وانتشرت بين المسلمين لا تقبل فيها دعوى الجهل، ولا سيما ما يتعلق بالعقيدة وأصل الدين. فإن الله عز وجل بعث نبيه صلى الله عليه وسلم ليوضح للناس دينهم ويشرحه لهم، وقد بلغ البلاغ المبين وأوضح للأمة حقيقة دينها وشرح لها كل شيء وتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، وفي كتاب الله الهدى والنور، فإذا ادعى بعض الناس الجهل فيما هو معلوم من الدين بالضرورة، وقد انتشر بين المسلمين، كدعوى الجهل بالشرك وعبادة غير الله عز وجل، أو دعوى أن الصلاة غير واجبة، أو أن صيام رمضان غير واجب، أو أن الزكاة غير واجبة، أو أن الحج مع الاستطاعة غير واجب، فهذا وأمثاله لا تقبل فيه دعوى الجهل ممن هو بين المسلمين، لأنها أمور معلومة بين المسلمين. وقد علمت بالضرورة من دين الإسلام وانتشرت بين المسلمين فلا تقبل دعوى الجهل في ذلك، وهكذا إذا ادعى أحد بأنه يجهل ما يفعله المشركون عند القبور أو عند الأصنام من دعوة الأموات والاستغاثة بهم والذبح لهم والنذر لهم، أو الذبح للأصنام أو الكواكب أو الأشجار أو الأحجار، أو طلب الشفاء أو النصر على الأعداء من الأموات أو الأصنام أو الجن أو الملائكة أو الأنبياء. فكل هذا أمر معلوم من الدين بالضرورة وأنه شرك كبير، وقد أوضح الله ذلك في كتابه الكريم، وأوضحه رسوله صلى الله عليه وسلم وبقي ثلا ث عشرة سنة في مكة وهو ينذر الناس هذا الشرك وهكذا في المدينة عشر سنين، يوضح لهم وجوب إخلاص العبادة لله وحده ويتلو عليهم كتاب الله مثل قوله تعالى: [وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ](الإسراء: 23) وقوله سبحانه: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[ (الفاتحة:5) وقوله عز وجل: [وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ] (البينة: 5)
وقوله سبحانه: [ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ](الزمر: 3) وقوله سبحانه: [قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ] (الأنعام:163)
وبقوله سبحانه مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم: [إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ] (الكوثر:2) وبقوله سبحانه وتعالى: [وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً] (الجـن:18)
وبقوله سبحانه وتعالى: [وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ] (المؤمنون:117)
وهكذا الاستهزاء بالدين والطعن فيه والسخرية به والسب، كل هذا من الكفر الأكبر ومما لا يعذر فيه أحد بدعوى الجهل، لأنه معلوم من الدين بالضرورة أن سب الدين أوسب الرسول صلى الله عليه وسلم من الكفر الأكبر، وهكذا الا ستهزاء والسخرية، قال تعالى: [قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ] (التوبة: 66) انتهى كلامه يرحمه الله.
وأما عذر الساب للدين بشيء آخر غير الجهل كالإكراه فسائغ لما أخرجه البيهقي والحاكم واللفظ له، عن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه، قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر، فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر آلهتهم بخير، ثم تركوه. فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له عليه الصلاة والسلام: ما وراءك؟ قال: شر يا رسول الله، ما تركت حتى نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير. قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئنا بالإيمان، قال: فإن عادوا فعد، وقد ذكر غير واحد من أهل التفسير أن عمار هو الذي أنزل الله تعالى في شأنه هذه الآية، وهي قوله تعالى: [مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ ] (النحل: 106)
وفي هذا القدر كفاية لبيان الحق في هذه المسألة وأن ما قلناه يفرح أهل الحق ويهدي أهل البدع إلى الصواب -إن شاء الله- وتجاوزنا بعض الجزئيات الورادة في السؤال لأن بمعرفة أصل المسألة يزول الاشكال فيها.
وأخيرا ننبه الأخ السائل إلى خطأ كبير وقع في سؤاله هو قوله( وهكذا الحال بالنسبة لترك الصلاة والحكم بغير ما أنزل الله وترك الحجاب وهكذا من الأحكام المخرجة من الملة. ومعلوم أن ترك الحجاب ليس بكفر مخرج من الملة وأما ترك الصلاة والحكم بغير ما أنزل الله ففيهما خلاف وتفصيل مشهور.