الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الحديث الذي سألت عنه متفق عليه، وقد جاء بلفظ: لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا.
أما شرحه: فيقول النووي في صحيح مسلم تعليقًا على هذا الحديث: قال أصحابنا، وغيرهم من العلماء: الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام باقية إلى يوم القيامة.
وتأوّلوا هذا الحديث تأويلين:
أحدهما: لا هجرة بعد الفتح من مكة؛ لأنها صارت دار إسلام، فلا تتصوّر منها الهجرة.
والثاني، وهو الأصح: أن معناه أن الهجرة الفاضلة المهمّة المطلوبة التي يمتاز بها أهلها امتيازًا ظاهرًا، انقطعت بفتح مكة، ومضت لأهلها الذين هاجروا قبل فتح مكة؛ لأن الإسلام قويّ، وعزّ بعد فتح مكة عزًّا ظاهرًا، بخلاف ما قبله. اهـ
ويقول الحافظ ابن حجر في فتح الباري: قوله: لا هجرة بعد الفتح أي: فتح مكة. قال الخطابي، وغيره: كانت الهجرة فرضًا في أول الإسلام على من أسلم؛ لقلّة المسلمين بالمدينة، وحاجتهم إلى الاجتماع، فلما فتح الله مكة، دخل الناس في دِين الله أفواجًا، فسقط فرض الهجرة إلى المدينة، وبقي فرض الجهاد، والنية، على من قام به، أو نزل به عدو. انتهى.
وكانت الحكمة أيضًا في وجوب الهجرة على من أسلم؛ ليسلم من أذى ذويه من الكفار؛ فإنهم كانوا يعذّبون من أسلم منهم إلى أن يرجع عن دِينه، وفيهم نزلت: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا...الآية، وهذه الهجرة باقية الحكم في حقّ من أسلم في دار الكفر، وقدر على الخروج منها.
قوله: "ولكن جهاد ونية"، قال الطيبي، وغيره: هذا الاستدراك يقتضي مخالفة حكم ما بعده لما قبله، والمعنى: أن الهجرة التي هي مفارقة الوطن التي كانت مطلوبة على الأعيان إلى المدينة، انقطعت، إلا أن المفارقة بسبب الجهاد باقية، وكذلك المفارقة بسبب نية صالحة، كالفرار من دار الكفر، والخروج في طلب العلم، والفرار بالدِّين من الفتن، والنية في جميع ذلك. اهـ
والله أعلم.