براءة ذمة الإنسان من الحقوق ما لم تتحقق أسباب وجوبها

12-3-2025 | إسلام ويب

السؤال:
عندما كنتُ طبيبة في السنة الثانية من مرحلة التدريب في المشفى الجامعي، استقبلتُ حالة مُحوَّلة من مشفى جامعي آخر، لشاب لديه تاريخ سابق من التحسس تجاه أحد الأدوية المضادة للجراثيم. لكن لم يتم ذكر ذلك في ملفه الطبي من قبل الأطباء الذين قاموا بتحويله إلينا.
عند وصوله، قامت طبيبة السنة الأولى، التي كنتُ أشرف عليها، باستجوابه، لكنها نسيت أن تسأله عمّا إذا كان لديه تحسس تجاه أي دواء. وعندما عرضتْ عليّ تقرير الاستجواب، لم أجد أي إشارة إلى ذلك، فقمت بوصف هذا الدواء المناسب لعلاج حالته الحالية، دون علمي بأنه يعاني من حساسية تجاهه. كما أعطيت الإذن للتمريض بصرف الدواء وإعطائه للمريض.
ولكن بمجرد تلقيه الدواء، أصيب بحالة تحسس شديدة كادت أن تودي بحياته. فتدخلت طبيبة السنة الثالثة، قامت بإنعاشه، ثم نُقل إلى العناية المشددة في مشفى آخر. أي أنه لم يمت، لكنني لا أعرف ماذا حل به بعد ذلك! وكنت مقصِّرة في متابعة حالته بسبب انشغالي الشديد ببقية المرضى.
علمًا بأنني كنت أشعر بإرهاق شديد أثناء المناوبات أدى إلى ضعف تركيزي، وعدم قدرتي على التصرف السليم في الحالات الطارئة. وقد تسبب ذلك في وقوع حالات مشابهة من التقصير غير المقصود بحق المرضى، بسبب العدد الكبير جدًا للمرضى، وقلة الكادر الطبي، وضعف الإشراف من قبل المختصين. ونتيجة لذلك، كنت أضطر أحيانًا لتأجيل الاهتمام بمريض لحساب آخر، رغم أن الأولوية كانت تستوجب العكس، أو أنسى إجراء بعض الفحوصات المهمة التي كان يجب إجراؤها.
عندما أدركتُ ذلك من نفسي، قررتُ ترك الاختصاص بعد سنتين ونصف، ثم تركتُ مهنة الطب بشكل نهائي، مع العلم أنها لم تكن رغبتي منذ البداية، بل أُجبرتُ عليها من قِبَل والدي إجبارًا شديدًا.
والآن، وقد أعلنتُ توبتي إلى الله، نادمة على كل تقصير بدر مني بحق المرضى، نتيجة الإرهاق الشديد وقلة الخبرة، وامتنعتُ عن ممارسة هذه المهنة نهائيًا، فهل يلزمني شيء آخر؟ وهل هذه التوبة تكفي لمحو ما سبق من تقصير، حتى وإن أدى ذلك بشكل أو بآخر إلى وفاة أحد المرضى؟
وشكرًا لكم.

الإجابــة:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن الأصل براءة ذمتك، وأنه لا يلزمك حق لأحد، ما دمت لم تتيقني من حصول ما يوجب الضمان عليك، كموت أحد بسبب تقصيرك مثلا.

وأمّا شكك في وجوب الحقوق عليك، فلا يترتب عليه شيء.

قال الجويني في كتابه "غياث الأمم": وكل ما أشكل وجوبه، فالأصل براءة الذمة فيه، كما سبق في حقوق الأشخاص الْمُعَيَّنِينَ. اهـ.

وقال ابن حزم في المحلى: فإن ‌شَكَّتْ ‌أَمَاتَ ‌من ‌فعلها أم من غير فعلها؟ فلا دية في ذلك، ولا كفارة؛ لأننا على يقين من براءتها من دمه، ثم على شَكٍّ أَمَاتَ من فعلها أم لا؟ والأموال محرمة إلا بيقين، والكفارة إيجاب شرع، والشرع لا يجب إلا بنص، أو إجماع - فلا يحل أن تُلْزَمَ غرامة، ولا صيامًا، ولا أن تلزم عَاقِلَتُهَا دية بالظن الكاذب. اهـ.

وقال العز بن عبد السلام في كتابه " قواعد الأحكام": فإن الله خلق عباده كلهم أبرياء الذمم والأجساد من حقوقه وحقوق العباد إلى أن تتحقق أسباب وجوبها. اهـ.

وقال العلوي الشنقيطي في نوازله: فمن تصدى للإفتاء، فليحجم عن الإقدام على إلزام الضمان إلا بصريح أو ظاهر، وإلا وجب عليه التمسك بالأصل الذي هو براءة الذمة. اهـ.

والله أعلم.

www.islamweb.net