الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقراءة سورة الإخلاص والمعوذتين قبل النوم سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم فعن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا آوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما: قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات. متفق عليه وهذا لفظ البخاري.
كما ثبت الترغيب في قراءة آية الكرسي عند النوم لكونها سبباً في حفظ المسلم من الشيطان حتى يصبح، ففي صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة). قال: قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة، وعيالا فرحمته فخليت سبيله، قال: (أما إنه قد كذبك، وسيعود). فعرفت أنه سيعود، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه سيعود). فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال، لا أعود، فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أباهريرة ما فعل أسيرك). قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا، فرحمته فخليت سبيله، قال: (أما إنه كذبك، وسيعود). فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث مرات تزعم لا تعود، ثم تعود، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}. حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما فعل أسيرك البارحة). قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: (ما هي). قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}. وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح - وكانوا أحرص شيء على الخير - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة). قال: لا، قال: (ذاك شيطان)
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: لن يزال عليك من الله حافظ، أي من عند الله أو من جهة أمر الله أو من بأس الله ونقمته. انتهى.
وعليه؛ فلم يثبت كون الحفظ المذكور بملكين اثنين، وبول الشيطان في أذن النائم عن صلاة الصبح ورد في حديث متفق عليه عن عبد الله بن مسعود قال: ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل نام ليلة حتى أصبح قال: ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه أو قال: في أذنه.
ولم يثبت ذكر لفظ الاستهزاء في الحديث؛ وإنما هو تفسير لبعض معاني البول الصادر من الشيطان، ففي فتح الباري: واختلف في بول الشيطان فقيل هو على حقيقته قال القرطبي وغيره: لا مانع من ذلك إذ لا إحالة فيه لأنه ثبت أن الشيطان يأكل ويشرب وينكح فلا مانع من أن يبول، وقيل هو كناية عن سد الشيطان أذن الذي ينام عن الصلاة حتى لا يسمع الذكر، وقيل معناه أن الشيطان ملأ سمعه بالأباطيل فحجب سمعه عن الذكر، وقيل هو كناية عن ازدراء الشيطان به، وقيل إن الشيطان استولى عليه واستخف به حتى اتخذه كالكنيف المعد للبول إذ من عادة المستخف بالشيء أن يبول عليه. انتهى.
ثم إن قراءة المعوذتين عند النوم لم يرد أنها تمنع من بول الشيطان في أذن النائم عن صلاة الفجر، أما آية الكرسي فقارئها لا يقربه شيطان في تلك الليلة، ووجه التوفيق بين عدم قربان الشيطان وبوله هنا بعدة أمور:
الأمر الأول: أن يحمل القرب هنا على كونه حسياً بمعنى أن الشيطان لا يقربه بأذى في جسده أو سرقة مثلاً، أما البول فهو معنوي بمعنى الاستيلاء والاستهزاء.
الأمر الثاني: أن يحمل القرب والبول على كونهما معاً حسيين أو معنويين فيكون أحدهما مخصصا لعموم الآخر.
الأمر الثالث: أن يقال إن البول يحصل في حق من لم يقرأ آية الكرسي بنية طرد الشيطان، وهذه الأوجه الثلاثة ذكرها الحافظ ابن حجر في الفتح للتوفيق بين حديث العقد الثلاث التي يعقدها الشيطان على قافية رأس النائم، وبين حديث قارئ آية الكرسي الذي لا يقربه شيطان حيث قال الحافظ: وقد يظن أن بين هذا الحديث والحديث الآتي في الوكالة من حديث أبي هريرة الذي فيه أن قارئ آية الكرسي عند نومه لا يقربه شيطان معارضة وليس كذلك لأن العقد إنما حمل على الأمر المعنوي والقرب على الأمر الحسي فلا إشكال، إذ لا يلزم من سحره إياه مثلاً أن يماسه كما لا يلزم من مماسته أن يقربه بسرقة أو أذى في جسده ونحو ذلك، وإن حملا على المعنويين أو العكس فيجاب بادعاء الخصوص في عموم أحدهما إلى أن قال: فكذا يمكن أن يقال يختص بمن لم يقرأ آية الكرسي لطرد الشيطان. انتهى.
والله أعلم.