الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالحديث المذكور في السؤال ورد على عدة روايات، من أشهرها:
ما ذكره الإمام البخاري في صحيحه، والنسائي في السنن الكبرى، وابن خزيمة في صحيحه، ونصه كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: قال: وكّلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته، وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج، وعلي عيال، ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة»، قال: قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة، وعيالاً، فرحمته، فخليت سبيله... فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث مرات، أنك تزعم لا تعود، ثم تعود قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}، حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة»، قال: لا، قال: «ذاك شيطان».
وقد أورده البخاري في صحيحه في باب صفة إبليس وجنوده، والحديث لم نقف فيه على النص أن الشيطان المذكور فيه هو إبليس على وجه التحديد، وإنما هو من شياطين الجن عمومًا، ويدل على ذلك ما ذكر في هذا الحديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم: صدقك، وهو كذوب ذاك شيطان. على وجه التنكير، والتنكير يعم كل شيطان، وقد قال الله تعالى عن الجن: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا [الجن: 11]، والجن من خبث فيهم يسمى شيطانًا، كما سبق تفصيله في الفتوى: 162981.
ورغم خبثه إلا أنه لا يستحيل عليه الإخبار بأمر فيه مصلحة لبني آدم، وبالأخص أنه قد حبس كما جاءت بذلك الرواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في السؤال عنه: ماذا فعل أسيرك؟
وقد ذكر في القرآن -والذي يقطع بصحته كل مسلم- أن الله تعالى سخّر الشياطين لخدمة نبي الله سليمان، فكانت الشياطين تصنع الأمور التي ينتفع بها -عليه السلام- مجبرة على ذلك، قال تعالى: فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ [ص: 36-38].
وأيضًا فإن فضل آية الكرسي لم يثبت بقول الشيطان، بل ثبت بإقرار النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: صدقك وهو كذوب، فأخبر صلى الله عليه وسلم بصحة هذا الفضل.
وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6]، فلم يأمرنا الله تعالى برفض خبر الفاسق بالكلية، بل أمر بالتثبت في ما قاله.
وقد علّق على هذا الحديث ابن حجر في كتابه فتح الباري بقوله: وفي الحديث من الفوائد .. أن الحكمة قد يتلقاها الفاجر فلا ينتفع بها، وتؤخذ عنه فينتفع بها .. وبأن الكذاب قد يصدق. اهـ.
والله أعلم.