الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإننا لا نستطيع أن ننسب أبا الفرج ابن الجوزي إلى مذهب الأشاعرة في الاعتقاد، ذلك لأنه لا يوافقهم في جميع أصولهم، وإنما يوافقهم في بعضها، ومن ذلك تفويضه لمعاني صفات الله جل وتعالى، حيث قال بقول متقدمي الأشاعرة، وشيخ الإسلام ابن تيمية يفضل أصحاب أبي الحسن الأشعري المتقدمين على ابن الجوزي وشيخه ابن عقيل، ويراهم أقرب إلى ما كان عليه الإمام أحمد بن حنبل والأئمة، ولكنه يفضلهما على كثير من متأخري الأشاعرة الذين انتحلوا نحلة الجهمية.
قال ابن تيمية في شرح العقيدة الأصفهانية: وما في كتب الأشعري مما يوجد مخالفاً للإمام أحمد وغيره من الأئمة -فيوجد في كلام كثير من المنتسبين إلى أحمد كأبي الوفاء ابن عقيل وأبي الفرج ابن الجوزي وصدقة بن الحسين وأمثالهم ما هو أبعد عن قول أحمد والأئمة من قول الأشعري وأئمة أصحابه ، ثم بين رحمه الله أن ابن الجوزي مع مخالفته لمعتقد أهل السنة والجماعة إلا أنه أفضل حالاً من متأخري الأشاعرة الذين غالوا في البدعة وخرجوا عن قول الأشعري نفسه، فقال رحمه الله: ومن هو أقرب إلى أحمد والأئمة من مثل ابن عقيل وابن الجوزي ونحوهما....- أقرب إلى السنة من كثير من أصحاب الأشعري المتأخرين الذين خرجوا عن كثير من قوله إلى قول المعتزلة أو الجهمية أو الفلاسفة. انتهى.
هذا.. وقد عاش ابن الجوزي رحمه الله ومن قبله شيخه أبو الوفاء علي بن عقيل -رحمه الله- تناقضاً بين انتمائه السلفي لمدرسة الحنابلة الأثرية الرافضة لعلم الكلام والبدع، وبين قوة التيار الكلامي الذي بلغ ذروته وأوج نشاطه في القرنين الخامس والسادس... ومن ثم جاءت أقوالهما مضطربة متناقضة.
قال الحافظ ابن رجب في تعليل ما لقيه أبو الوفاء من أصحابه الحنابلة: والأذية التي ذكرها من أصحابه له، وطلبهم منه هجران جماعة من العلماء، نذكر بعض شرحها: وذلك أن أصحابنا كانوا ينقمون على ابن عقيل تردده إلى ابن الوليد وابن التبان شيخي المعتزلة، وكان يقرأ عليهما في السر علم الكلام، ويظهر منه في بعض الأحيان نوع انحرافٍ عن السنَّة، وتأولٍ لبعض الصفات، ولم يزل فيه بعض ذلك إلى أن مات رحمه الله. انتهى.
وقد تأثر ابن الجوزي بشيخه تأثراً بالغاً، فحاد عن طريق سلفه من أئمة المذهب، وقال بقول أهل التأويل، لا سيما في كتابه (دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه)، الذي صنفه في الرد على بعض مشايخ المذهب، كابن حامد، والقاضي أبي يعلى، وشيخه ابن الزاغوني، وليس في الرد على الحنابلة كما زعم بعضهم.
قال ابن رجب رحمه الله في ذكر كلام الناس فيه: .... ومنها وهو الذي من أجله نقم جماعة من مشايخ أصحابنا وأئمتهم من المقادسة والعلثيين، من ميله إلى التأويل في بعض كلامه، واشتد نكرهم عليه في ذلك، ولا ريب أن كلامه في ذلك مضطرب مختلف، وهو إن كان مطلعاً على الأحاديث والآثار في هذا الباب، فلم يكن خبيراً بحل شبهة المتكلمين وبيان فسادها، وكان معظماً لأبي الوفاء ابن عقيل، يتابعه في أكثر ما يجد في كلامه، وإن كان قد رد عليه في بعض المسائل، وكان ابن عقيل بارعاً في الكلام، ولم يكن تام الخبرة بالحديث والآثار، فلهذا يضطرب في هذا الباب، وتتلون فيه آراؤه، وأبو الفرج تابعُ له في هذا التلون. انتهى.
وكذا قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن أبا الفرج نفسه متناقض في هذا الباب، لم يثبت على قدم النفي ولا على قدم الإثبات، بل له من الكلام في الإثبات نظماً ونثراً ما أثبت به كثيراً من الصفات التي أنكرها في هذا المصنف. انتهى.
هذا وللفائدة وانظر الفتوى رقم: 55619، والفتوى رقم: 50216.
والله أعلم.