الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالوصية مشروعة بنص كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعمل الصحابة والسلف الصالح، وتتجاذبها الأحكام الخمسة فقد تكون واجبة، وقد تكون مستحبة، وقد تكون مباحة، وقد تكون مكروهة، وقد تكون محرمة. فتجب على المسلم في حالة ما إذا كان عليه حق شرعي يخاف أن يضيع إذا لم يوص به كأمانة أو دين.
وكذا من علم أن أهله ينوحون عليه ويرتكبون مخالفات شرعية في جنازته فإن عليه أن يوصي بعدم فعل ذلك وإلا عذب فقد روى مسلم وغيره عن عبد الرحمن بن يزيد وأبي بردة بن أبي موسى قالا أغمي على أبي موسى وأقبلت امرأته أم عبد الله تصيح برنة قالا ثم أفاق قال ألم تعلمي وكان يحدثها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنا بريء ممن حلق وسلق وخرق.
و في الصحيحين أن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إِنَّ الْمَيِّت لَيُعَذِّب بِبُكَاءِ أَهْله عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَة: بِبَعْضِ بُكَاء أَهْله عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَة: بِبُكَاءِ الْحَيّ. وَفِي رِوَايَة: يُعَذَّب فِي قَبْره بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَة: مَنْ يُبْكَ عَلَيْهِ يُعَذَّب. وقد قيل إنه من لم يوص بعدم النوح عليه إذا كان يعلم أنه يناح عليه، قال الإمام النووي رحمه الله: وَقَالَتْ طَائِفَة : هُوَ مَحْمُول عَلَى مَنْ أَوْصَى بِالْبُكَاءِ وَالنَّوْح أَوْ لَمْ يُوصِ بِتَرْكِهِمَا. فَمَنْ أَوْصَى بِهِمَا أَوْ أَهْمَلَ الْوَصِيَّة بِتَرْكِهِمَا يُعَذَّب بِهِمَا لِتَفْرِيطِهِ بِإِهْمَالِ الْوَصِيَّة بِتَرْكِهِمَا، فَأَمَّا مَنْ وَصَّى بِتَرْكِهِمَا فَلَا يُعَذَّب بِهِمَا إِذْ لَا صُنْع لَهُ فِيهِمَا وَلَا تَفْرِيط مِنْهُ. وَحَاصِل هَذَا الْقَوْل إِيجَاب الْوَصِيَّة بِتَرْكِهِمَا, وَمَنْ أَهْمَلَهُمَا عُذِّبَ بِهِمَا.
وأما الوصية بثلث ماله فأقل لمن تصح لهم الوصية فمشروع.
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما حق امرئ مسلم له شيء يوصى فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده.
قال ابن عمر: ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا ووصيتي عندي. رواه البخاري ومسلم.
فيستحب له أن يوصي للأقربين والفقراء والصالحين إذا لم يكن في ذلك ضرر على الورثة ، وتحرم الوصية إذا كان فيها ضرر على الورثة، وتكره إذا كان الموصي قليل المال وله وارث يحتاج له، وتباح للغني، فهذا حكم الوصية فهي واجبة في الواجب، مستحبة في المستحب، محرمة في الحرام.
ووصية المسلم بما يتعلق بجثمانه بعد موته كأن يوصي بأن يغسله شخص معين، وأن يدفن في مكان معين ونحو ذلك فجائزة في الأصل، فقد روى الدارقطني عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها أن فاطمة رضي الله عنها أوصت أن يغسلها علي رضي الله عنه، وروى البيهقي أن أبا بكر أوصى امرأته أسماء بنت عميس أن تغسله، فضعفت فاستعانت بعبد الرحمن بن عوف.
وإذا أوصى ورثته أن يدعوا له ويقرءوا عليه شيئا من القرآن فلا بأس به فقد روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الرحمن بن شماسة المهري قال: حضرنا عمرو بن العاص هو في سياق الموت، فبكى طويلا وحول وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: ما يبكيك يا أبتاه؟ أما بشرك رسول الله بكذا، فأقبل بوجهه، فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإني على أطباق ثلاث... ثم ذكر الحديث، وفيه: فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فسنوا على التراب سنا، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور، ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم، وأنظر ما أراجع به رسل ربي، ثم قال: فدل على أن الميت يستأنس بالحاضرين عند قبره، ويسر بهم.
وقد ذكر عن جماعة من السلف أنهم أوصوا أن يقرأ عند قبورهم وقت الدفن، قالعبد الحق: يروى أن عبد الله بن عمر أمر أن يقرأ عند قبره سورة البقرة، وقال: ويدل على هذا أيضا ما جرى عليه عمل الناس قديما، وإلى الآن من تلقين الميت في قبره ولولا أنه يسمع ذلك وينتفع به لم يكن فيه فائدة، وكان عبثا. وقد سئل عنه الإمام أحمد رحمه الله فاستحسنه واحتج عليه بالعمل .
والله أعلم.