الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن حكم هذه المسائل يختلف باختلاف صيغ الأيمان كما هو مبين في الفتويين اللتين أوردهما الأخ السائل، وننبه هنا على أن الحلف والقسم بمعنى واحد، وكلاهما عبارة عن اليمين والحالف له حالات منها : أن يحلف أو ينذر أكثر من مرة أن لا يعود إلى فعل أمر معين ثم يعود إليه مرة أو أكثر ففي هذه الحالة عليه كفارة واحدة وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، وهكذا كل يمين على فعل واحد أو ترك شيء واحد ولو تكررت أو تكرر الحنث ليس فيها إلا كفارة واحدة، إلا إذا كفر عن الأولى منها ثم حلف وحنث مرة أخرى فعليه الكفارة عن الأخرى ، ومنها : أن يحلف أيمانا متعددة على أشياء مختلفة مثل أن يقول والله لا آكل هذا الطعام والله لا ألبس هذا الثوب والله لا أذهب إلى مكان كذا فإنه إن حنث في الجميع كفر ثلاث مرات وإن حنث في واحدة كفرة مرة واحدة هذا قول أكثر أهل العلم، وقيل يكفر كفارة واحدة ما لم يكفر من قبل كما فهم الأخ السائل وهذا قول إسحاق وبعض الحنابلة، وقد ذكر ابن قدامة في المغني بعض هذه المسائل مع بيان ما اختلف فيه منها فقال : وإذا حلف يمينا واحدة على أجناس مختلفة فقال والله لا أكلت ولا شربت ولا لبست فحنث في الجميع فكفارة واحدة ، لا أعلم فيه خلافا لأن اليمين واحدة والحنث واحد فإنه بفعل واحد من المحلوف عليه يحنث وتنحل اليمين، وإن حلف أيمانا على أجناس فقال، والله لا أكلت، والله لا شربت، والله لا لبست فحنث في واحدة منها فعليه كفارة، فإن أخرجها ثم حنث في يمين أخرى لزمته كفارة أخرى، لا نعلم في هذا أيضا خلافا، لأن الحنث في الثانية تجب به الكفارة بعد أن كفر عن الأولى فأشبه ما لو وطئ في رمضان فكفر ثم وطئ مرة أخرى، وإن حنث في الجميع قبل التكفير فعليه في كل يمين كفارة هذا ظاهر كلام الخرقي ورواه المروذي عن أحمد ، وهو قول أكثر أهل العلم وقال أبو بكر : تجزئه كفارة واحدة، ورواها ابن منصور عن أحمد قال القاضي : وهي الصحيحة وقال أبو بكر ما نقله المروذي عن أحمد قول لأبي عبد الله، ومذهبه أن كفارة واحدة تجزئه، وهو قول إسحاق لأنها كفارات من جنس، فتداخلت كالحدود من جنس، وإن اختلفت محالها بأن يسرق من جماعة أو يزني بنساء، ولنا أنهن أيمان لا يحنث في إحداهن بالحنث في الأخرى فلم تتكفر إحداهما بكفارة الأخرى كما لو كفر عن إحداهما قبل الحنث في الأخرى وكالأيمان المختلفة الكفارة وبهذا فارق الأيمان على شيء واحد، فإنه متى حنث في إحداهما كان حانثا في الأخرى، فإن كان الحنث واحدا كانت الكفارة واحدة، وها هنا تعدد الحنث فتعددت الكفارات، وفارق الحدود فإنها وجبت للزجر وتندرئ بالشبهات بخلاف مسألتنا، ولأن الحدود عقوبة بدنية فالموالاة بينها ربما أفضت إلى التلف فاجتزئ بأحدها، وها هنا الواجب إخراج مال يسير أو صيام ثلاثة أيام فلا يلزم الضرر الكثير بالموالاة فيه ولا يخشى منه تلف. انتهى .
وسبب ذكرنا حكم الاجتهاد في كفارة الأيمان المجهولة العدد في الفتوى الثانية دون الأولى مع الاتفاق في بقية المحتوى هو أن صاحب السؤال الثاني قال إنه نسي عدد الأيمان، والسائل الأول لم يذكر ذلك، وكلاهما يحتمل أنه كان يحلف على أمر واحد بأيمان متعددة، أو كان يحلف على أشياء متعددة بيمين واحدة ويحتمل أنه كان يحلف بأيمان متعددة على أشياء مختلفة، ولهذا أجيبا على كل الاحتمالات، وزيد الثاني بحكم مسألة جهل عدد الأيمان. ولو تأمل المطالع وراجع الفتويين المذكورتين اتضح له ما أشكل عليه .
والله أعلم .