الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد دلت نصوص الشرع من الكتاب والسنة على مشروعية التعويض عن الأضرار، ومن ذلك قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ {البقرة: 194} .
وقوله سبحانه: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ {النحل: 126} .
وقوله سبحانه: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {الشورى: 40} .
وقد نص المفسرون على أن هذه الآيات وما في معناها تدل على جواز أخذ التعويض قال الإمام ابن جرير: وفي رواية عن ابن سيرين أنه قال: إن أخذ منك رجل شيئاً فخذ منه مثله،انتهى.
وقال الإمام القرطبي: يجوز أخذ العوض كما لو تمكن الآخذ بالحكم من الحاكم،انتهى .
ومما يدل على مشروعية التعويض عن الضرر تلك الحادثة التاريخية التي حكم فيها داود وسليمان عليهما السلام بالتعويض لصاحب الزرع الذي تضرر من نفش الغنم فيه، وقد سجلها القرآن الكريم حيث قال الله سبحانه: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ {الأنبياء: 78} .
وخلاصة القصة: أن غنماً لرجل رعت ليلاً في زرع آخر فأتلفته، فاحتكما إلى داود عليه السلام، فقضى بتسليم الغنم إلى صاحب الزرع تعويضاً له عما لحقه من ضرر، وجبراً للنقص الذي أصابه.
وحكم سليمان عليه السلام بأن تدفع الغنم إلى صاحب الحرث، فينتفع بألبانها وسمونها وأصوافها، ويدفع الحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه، فإذا عاد الزرع إلى حاله التي أصابته الغنم فيها في السنة المقبلة رد كل واحد منهما المال إلى صاحبه، فأعجب داود عليه السلام بحكم سليمان عليه السلام وأنفذه. انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (11/307).
فدلت هذه القصة بوضوح على مشروعية التعويض بالمال، كما دلت السنة المطهرة على مشروعية التعويض، ومن ذلك ما رواه البخاري وغيره عن أنس رضي الله عنه قال: أهدت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليه طعاماً في قصعة، فضربت عائشة القصعة بيدها فكسرتها، وألقت ما فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "طعام بطعام، وإناء بإناء"، وفي لفظ: فقالت عائشة: يا رسول الله ما كفارته؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إناء كإناء، وطعام كطعام".
كما دل على مشروعية التعويض أيضاً: قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناقة البراء بن عازب، فعن حرام بن محيصة: أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطاً فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها" رواه أحمد، والدارقطني.
وقوله: "ضامن على أهلها" أي: مضمون عليهم، ومعنى الضمان هنا: إلزام أصحابها بتعويض ما أفسدته مواشيهم من الزرع والشجر ليلاً.
وقال صلى الله عليه وسلم: من أوقف دابة في سبيل من سبل المسلمين، أو في سوق من أسواقهم فأوطأت بيد أو رجل فهو ضامن رواه الدارقطني من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
وما أحسن قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يأخذن أحدكم متاع أخيه جاداً ولا لاعباً، وإذا أخذ أحدكم عصا أخيه فليردها عليه رواه أبو داود والترمذي.
بهذه النصوص وغيرها استدل الفقهاء رحمهم الله على مشروعية التعويض، وأصلوا لذلك قواعد كلية صيانة لأموال الناس من كل اعتداء، وجبراً لما فات منها بالتعويض كقولهم: الضرر يزال، والضرر لا يزال بالضرر... إلخ.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : اقتضت السنة التعويض بالمثل... إلخ، وقال: الأصل الثاني: أن جميع المتلفات تضمن بالجنس بحسب الإمكان مع مراعاة القيمة، حتى الحيوان، فإنه إذا اقترضه رد مثله... وإذا كانت المماثلة من كل وجه متعذرة حتى في المكيل والموزون، فما كان أقرب إلى المماثلة، فهو أولى بالصواب، ولا ريب أن الجنس إلى الجنس أقرب مماثلة من الجنس إلى القيمة، فهذا هو القياس وموجب النصوص، وبالله التوفيق، انتهى من إعلام الموقعين (2/20).
وقال الكاساني: إذا تعذر نفي الضرر من حيث الصورة، فيجب نفيه من حيث المعنى، ليقوم الضمان مقام المتلف، انتهى من بدائع الصنائع (7/165).
وعلى أية حال، فليس هذا المقام مقام تفصيل، وما ذكرناه نحسبه كافياً، وعلى هذا، فلا حرج في أخذ الغرامة المالية أي: التعويض الذي حكمت به المحكمة، فهو مال حلال إذا لم يكن زائداً على القدر الذي فقده، فإن زاد عليه، فلا يجوز له أخذ الزيادة.
والله أعلم.