1- النقابات المهنية والروابط العلمية
يكاد نشاط النقابات - في البلاد العربية التي بها نقابات - ينحصر في أداء بعض الخدمات لأعضائها، عن طريق التعاون فيما بينهم، أو السعي للحصول لأعضائها على بعض المزايا، على حساب غيرهم من أعضاء المجتمع في الغالب. وقلما نجد نقابة من النقابات، تجعل من أعضائها جندا في الميادين المختلفة، يدفعون عن المجتمع، ويضحون في سبيله، باستخدام الطاقات المملوكة لهم، فهي في الحقيقة، تجمعات تهدف إلى حصول أعضائها على مكاسب من الجهات الأخرى، التي تتعامل معها باسمهم. أي لا تحصل على مكاسب، أو مزايا للأعضاء، باستغلال طاقات إضافية لديهم، وإنما تحصل عليها بممارسة ضغوط، يخضع لها الطرف الآخر، حكومة أو رجال أعمال، أو مستهلكين، لخدمة يقدمها أعضاء النقابة، ولا يترتب على ذلك زيادة في ناتج، ولا تحسين في أداء.
وليس في الحصول على المزايا، أو المكاسب غضاضة، إذا كان حقا لمن يحصل عليه، لكنه يبقى مكسبا مقصورا على الأعضاء، لا يتعداهم إلى غيرهم، من أعضاء المجتمع، بل ربما يكون عبئا على بعض أعضاء المجتمع، وهذا ما تمارسه النقابات، في ظل الفكر، الذي يسيطر عليها الآن، وليس ذلك بفكر إسلامي.. إن التجمع الذي امتدحه [ ص: 123 ] النبي صلى الله عليه وسلم وأحب أن ينضم إليه، في ظل الإسلام، إذا دعي إليه، كان تجمعا يهدف إلى تحقيق الصالح العام، واستخدام الجهود في نصرة المظلوم [1] ، ومن ثم فإن النقابات - في ظل الفكر الإسلامي - ينبغي أن يكون نفعها متعديا، غير مقصور على أعضائها، أي ينبغي، أن تتمثل جهودها في تحقيق مصالح المجتمع، وتحقيق مصالح أعضائها، من خلال ذلك.. ويتحقق ذلك، إذا عمدت هـذه النقابات، إلى استخدام طاقات أعضائها، في تحقيق النفع لهم، فسيكون النفع في هـذه الحالة، متعديا إلى بقية أعضاء المجتمع، لأنه سيكون إضافة إلى طاقات المجتمع، وليس سحبا من هـذه الطاقات. وسيتحقق ذلك تلقائيا، عندما تنطلق النقابات في بلادنا، في أداء دورها من فكرة إنفاق العفو، من الجهد البشري، في سبيل الله والمجتمع، ومن فكرة القيام بفروض الكفاية ، التي كلف الله بها الجميع، ففي هـذه الحالات تشعر النقابة - كما ينبغي أن يكون شعور كل تجمع إسلامي - أنها على ثغرة من الإسلام، ولا ينبغي أن يؤتى من قبلها. فإذا سيطرت هـذه المشاعر، ووضحت هـذه الفلسفة، عند كل عضو من أعضاء النقابة، انطلقت النقابة تبحث لنفسها عن دور تؤديه، وعن هـدف اجتماعي تحققه، أو عقبة تذللها، بل إنها ستتنافس مع غيرها من النقابات والجهات، كي يسبق كل إلى القيام بما يلوح، ويظهر من فروض الكفاية ، وستجد كل نقابة من الأهداف ما تحققه، ومن المشاكل ما تعمد إلى حله، ومن العقبات الاجتماعية ما تقوم بتذليله، طبقا للخبرات المتوفرة [ ص: 124 ] عند أعضائها، هـندسية كانت تلك الخبرات، أم طبية، أم تربوية، زراعية كانت، أم صناعية، أم خدمية.
إن انطلاق النقابات في تجمعها وعملها، من فكرة فروض الكفاية ، وفكرة إنفاق العفو، من الجهد البشري، يحدث تغييرا جوهريا في سلوكها، ويجعل لها دورا واضحا في بناء المجتمع، غير دورها التقليدي الذي تقوم بأدائه اليوم، في ظل الفكر المسيطر عليها، وستتحول من جماعة تبحث عن مصالح أعضائها، ولو كان ذلك - في أحيان كثيرة - ضد مصالح المجتمع، إلى جماعة، تبحث عن تحقيق مصالح أعضائها، من خلال تحقيق مصالح المجتمع، وعندئذ ستكون كل نقابة بؤرة إشعاع، ومركز قيادة، تقود التقدم والبناء، في المجال الذي تعمل فيه.
إن تقدم الزراعة، وتطور الصناعة، وارتقاء قطاع الخدمات واستصلاح الأراضي، وبناء المساكن، ومحو الأمية من المجتمع، كل ذلك وغيره، يمكن أن يتحقق بجهود مختلف أنواع النقابات، إذا تبنت فلسفة " فروض الكفاية " ، وإنفاق العفو، في تحقيقها، تلك الفروض التي يجب على كل فرد في المجتمع الإسلامي، أن يسأل نفسه عن مكانه منها، بصفته الفردية، وعن مكانه منها بصفته عضوا في تجمع ما، وأن يدرك أنه مسئول عن القيام بها، إن كان قادرا، وعن التعاون مع غيره، في القيام بها، أو في إقامة من يقوم بها، وأنه إذا لم يكن له دور من الأدوار الثلاثة، فإنه آثم ومضيع، ومسئول عن ذلك يوم القيامة. لقد جاء في تفسير " المنار " تعليقا على تفسير قول الله تعالى: ( ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ) [البقرة:219] " . [ ص: 125 ] قال علماؤنا: إن جميع الفنون والصناعات، التي يحتاج إليها الناس في معايشهم، من الفروض الدينية. وإذا أهملت الأمة شيئا منها، فلم يقم به من أفرادها من يكفيها أمر الحاجة إليه، كانت كلها عاصية لله تعالى، مخالفة لدينه، إلا من كان عاجزا عن دفع ضرر الحاجة، وعن الأمر به للقادر عليه، فأولئك هـم المعذورون بالتقصير.
وعلى هـذا قام صرح مجد الإسلام عدة قرون، كان المسلمون كلما عرض لهم شيء، بسبب التوسع في العمران، يتوقف عليه حفظه، وتعميم دعوته النافعة، قاموا به حق القيام، وعدوا القيام من الدين، عملا بمثل هـذه الآية، وغيرها من الآيات، ومضوا على ذلك قرونا، كانوا فيها أبسط الأمم وأعلاها حضارة وعمرانا " [2] .
إن صرح مجد الإسلام - بتعبير صاحب المنار - يمكن إقامته من جديد، من خلال انفعال النقابات بهذا التكليف، ووفائها به، حتى لا تبقى حاجة من الحاجات، أو صناعة من الصناعات، تحتاجها إقامة هـذا الصرح، إلا وجد من أبناء الإسلام، من يتقدم للوفاء بها. وإن بعث هـذه الروح في النقابات المهنية، لكفيل بجعلها الصورة الحديثة لأنظمة التعاون الإسلامية، للقيام بفروض الكفاية ، كل في الميدان الذي يجيده، وبهذا تتحقق مصالح أعضاء النقابة، من خلال تحقق مصالح المجتمع. ومن أهم مصالح الأعضاء، خروجهم من التبعة الملقاة على عاتقهم، بوفائهم بما فرض الله عليهم، فيملكون الحجة، عندما يسألون عن عمرهم فيم أفنوه، وذلك إضافة إلى المصالح الآنية، [ ص: 126 ] التي تتحقق لهم كأعضاء في هـذه النقابة من ناحية، وكأعضاء في مجتمع يبذل كل أعضائه، كل جهودهم، من أجل إقامة الحياة الطيبة، التي يحياها الجميع.