الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      قال علي بن محمد بن أبان القاضي : حدثنا أبو يحيى زكريا الساجي ، حدثنا المزني ، قال : قلت : إن كان أحد يخرج ما في ضميري ، وما تعلق به خاطري من أمر التوحيد فالشافعي ، فصرت إليه ، وهو في مسجد مصر ، فلما جثوت بين يديه ، قلت : هجس في ضميري مسألة في التوحيد ، فعلمت أن أحدا لا يعلم علمك ، فما الذي عندك ؟ فغضب ، ثم قال : أتدري أين أنت ؟ قلت : نعم ، قال : هذا الموضع الذي أغرق الله فيه فرعون . أبلغك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر بالسؤال عن ذلك ؟ قلت : لا ، قال : هل تكلم فيه الصحابة ؟ قلت : لا ، قال : تدري كم نجما في السماء ؟ قلت : لا ، قال : فكوكب منها ; تعرف جنسه ، طلوعه ، أفوله ، مم خلق ؟ قلت : لا ، قال : فشيء تراه بعينك من الخلق لست تعرفه ، تتكلم في علم خالقه ؟ ! ثم سألني عن مسألة في [ ص: 32 ] الوضوء ، فأخطأت فيها ، ففرعها على أربعة أوجه ، فلم أصب في شيء منه ، فقال : شيء تحتاج إليه في اليوم خمس مرات ، تدع علمه ، وتتكلف علم الخالق ، إذا هجس في ضميرك ذلك ، فارجع إلى الله ، وإلى قوله تعالى : وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم إن في خلق السماوات والأرض الآية فاستدل بالمخلوق على الخالق ، ولا تتكلف علم ما لم يبلغه عقلك . قال : فتبت .

                                                                                      قال ابن أبي حاتم : في كتابي عن الربيع بن سليمان ، قال : حضرت الشافعي ، أو حدثني أبو شعيب ، إلا أني أعلم أنه حضر عبد الله بن عبد الحكم ، ويوسف بن عمرو ، وحفص الفرد ، وكان الشافعي يسميه حفصا المنفرد ، فسأل حفص عبد الله : ما تقول في القرآن ؟ فأبى أن يجيبه ، فسأل يوسف ، فلم يجبه ، وأشار إلى الشافعي ، فسأل الشافعي ، واحتج عليه ، فطالت فيه المناظرة ، فقام الشافعي بالحجة عليه بأن القرآن كلام الله غير مخلوق ، وبكفر حفص .

                                                                                      قال الربيع : فلقيت حفصا ، فقال : أراد الشافعي قتلي .

                                                                                      الربيع : سمعت الشافعي يقول : الإيمان قول وعمل ، يزيد وينقص . [ ص: 33 ]

                                                                                      وسمعته يقول : تجاوز الله عما في القلوب ، وكتب على الناس الأفعال والأقاويل .

                                                                                      وقال المزني : قال الشافعي : يقال لمن ترك الصلاة لا يعملها : فإن صليت وإلا استتبناك ، فإن تبت ، وإلا قتلناك ، كما تكفر ، فنقول : إن آمنت وإلا قتلناك .

                                                                                      وعن الشافعي قال : ما كابرني أحد على الحق ودافع ، إلا سقط من عيني ، ولا قبله إلا هبته ، واعتقدت مودته .

                                                                                      عبد الله بن أحمد بن حنبل : سمعت أبي يقول : قال الشافعي : أنتم أعلم بالأخبار الصحاح منا ، فإذا كان خبر صحيح ، فأعلمني حتى أذهب إليه ، كوفيا كان ، أو بصريا ، أو شاميا .

                                                                                      وقال حرملة : قال الشافعي : كل ما قلته فكان من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلاف قولي مما صح ، فهو أولى ، ولا تقلدوني . [ ص: 34 ]

                                                                                      الربيع : سمعت الشافعي يقول : إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقولوا بها ، ودعوا ما قلته .

                                                                                      وسمعته يقول -وقد قال له رجل : تأخذ بهذا الحديث يا أبا عبد الله ؟ فقال : متى رويت عن رسول الله حديثا صحيحا ولم آخذ به ، فأشهدكم أن عقلي قد ذهب .

                                                                                      وقال الحميدي : روى الشافعي يوما حديثا ، فقلت : أتأخذ به ؟ فقال : رأيتني خرجت من كنيسة ، أو علي زنار ، حتى إذا سمعت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثا لا أقول به ؟ ! [ ص: 35 ]

                                                                                      قال الربيع : وسمعته يقول : أي سماء تظلني ، وأي أرض تقلني إذا رويت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثا فلم أقل به .

                                                                                      وقال أبو ثور : سمعته يقول : كل حديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو قولي ، وإن لم تسمعوه مني .

                                                                                      ويروى أنه قال : إذا صح الحديث فهو مذهبي وإذا صح الحديث ، فاضربوا بقولي الحائط .

                                                                                      محمد بن بشر العكري وغيره : حدثنا الربيع بن سليمان قال : كان الشافعي قد جزء الليل ، فثلثه الأول يكتب ، والثاني يصلي ، والثالث ينام .

                                                                                      قلت : أفعاله الثلاثة عبادة بالنية .

                                                                                      قال زكريا الساجي : حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثني حسين الكرابيسي : بت مع الشافعي ليلة ، فكان يصلي نحو ثلث الليل ، فما رأيته يزيد على خمسين آية ، فإذا أكثر ، فمائة آية ، وكان لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله ، ولا بآية عذاب إلا تعوذ ، وكأنما جمع له الرجاء والرهبة جميعا . [ ص: 36 ]

                                                                                      قال الربيع بن سليمان من طريقين عنه ، بل أكثر : كان الشافعي يختم القرآن في شهر رمضان ستين ختمة .

                                                                                      ورواها ابن أبي حاتم عنه ، فزاد : كل ذلك في صلاة .

                                                                                      أبو عوانة الإسفراييني : حدثنا الربيع ، سمعت الشافعي يقول : ما شبعت منذ ست عشرة سنة إلا مرة ، فأدخلت يدي فتقيأتها .

                                                                                      رواها ابن أبي حاتم ، عن الربيع ، وزاد : لأن الشبع يثقل البدن ، ويقسي القلب ، ويزيل الفطنة ، ويجلب النوم ، ويضعف عن العبادة .

                                                                                      الزبير بن عبد الواحد : أخبرنا أبو بكر محمد بن القاسم بن مطر ، سمعت الربيع : قال لي الشافعي : عليك بالزهد ، فإن الزهد على الزاهد أحسن من الحلي على المرأة الناهد .

                                                                                      قال الزبير : وحدثني إبراهيم بن الحسن الصوفي ، سمعت حرملة ، سمعت الشافعي يقول : ما حلفت بالله صادقا ولا كاذبا .

                                                                                      قال أبو داود : حدثني أبو ثور قال : قل ما كان يمسك الشافعي الشيء من سماحته . [ ص: 37 ]

                                                                                      وقال عمرو بن سواد : كان الشافعي أسخى الناس على الدينار والدرهم والطعام ، فقال لي الشافعي : أفلست من دهري ثلاث إفلاسات ، فكنت أبيع قليلي وكثيري حتى حلي بنتي وزوجتي ، ولم أرهن قط .

                                                                                      قال الربيع : أخذ رجل بركاب الشافعي ، فقال لي : أعطه أربعة دنانير ، واعذرني عنده .

                                                                                      سعيد بن أحمد اللخمي المصري : سمعت المزني يقول : كنت مع الشافعي يوما ، فخرجنا الأكوام فمر بهدف ، فإذا برجل يرمي بقوس عربية ، فوقف عليه الشافعي ينظر ، وكان حسن الرمي ، فأصاب بأسهم ، فقال الشافعي : أحسنت ، وبرك عليه ، ثم قال : أعطه ثلاثة دنانير ، واعذرني عنده .

                                                                                      وقال الربيع : كان الشافعي مارا بالحذائين ، فسقط سوطه ، فوثب غلام ، ومسحه بكمه ، وناوله ، فأعطاه سبعة دنانير .

                                                                                      قال الربيع : تزوجت ، فسألني الشافعي : كم أصدقتها ؟ قلت : ثلاثين دينارا ، عجلت منها ستة . فأعطاني أربعة وعشرين دينارا . [ ص: 38 ]

                                                                                      أبو جعفر الترمذي : سمعت الربيع قال : كان بالشافعي هذه البواسير ، وكانت له لبدة محشوة بحلبة يجلس عليها ، فإذا ركب ، أخذت تلك اللبدة ، ومشيت خلفه ، فناوله إنسان رقعة يقول فيها : إنني بقال ، رأس مالي درهم ، وقد تزوجت ، فأعني ، فقال : يا ربيع ، أعطه ثلاثين دينارا واعذرني عنده . فقلت : أصلحك الله ، إن هذا يكفيه عشرة دراهم ، فقال : ويحك ! وما يصنع بثلاثين ؟ أفي كذا ، أم في كذا -يعد ما يصنع في جهازه- أعطه .

                                                                                      ابن أبي حاتم : أخبرنا عبد الرحمن بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن روح ، حدثنا الزبير بن سليمان القرشي ، عن الشافعي ، قال : خرج هرثمة ، فأقرأني سلام أمير المؤمنين هارون ، وقال : قد أمر لك بخمسة آلاف دينار . قال : فحمل إليه المال ، فدعا بحجام ، فأخذ شعره ، فأعطاه خمسين دينارا ، ثم أخذ رقاعا ، فصر صررا ، وفرقها في القرشيين الذين هم بالحضرة ومن بمكة ، حتى ما رجع إلى بيته إلا بأقل من مائة دينار .

                                                                                      محمد بن بشر العكري : سمعت الربيع قال : أخبرني الحميدي قال : قدم الشافعي صنعاء ، فضربت له خيمة ، ومعه عشرة آلاف دينار ، فجاء قوم ، فسألوه ، فما قلعت الخيمة ومعه منها شيء . رواها الأصم وجماعة عن الربيع . [ ص: 39 ]

                                                                                      وعن إبراهيم بن برانة قال : كان الشافعي جسيما طوالا نبيلا .

                                                                                      قال ابن عبد الحكم : كان الشافعي أسخى الناس بما يجد ، وكان يمر بنا ، فإن وجدني ، وإلا قال : قولوا لمحمد إذا جاء يأتي المنزل ، فإني لا أتغدى حتى يجيء .

                                                                                      داود بن علي الأصبهاني : حدثنا أبو ثور قال : كان الشافعي من أسمح الناس ، يشتري الجارية الصناع التي تطبخ وتعمل الحلواء ، ويشترط عليها هو أن لا يقربها ؛ لأنه كان عليلا لا يمكنه أن يقرب النساء لباسور به إذ ذاك ، وكان يقول لنا : اشتهوا ما أردتم .

                                                                                      قال أبو علي بن حمكان : حدثني أبو إسحاق المزكي ، حدثنا ابن خزيمة ، حدثنا الربيع ، قال : أصحاب مالك كانوا يفخرون ، فيقولون : إنه يحضر مجلس مالك نحو من ستين معمما . والله لقد عددت في مجلس الشافعي ثلاثمائة معمم سوى من شذ عني .

                                                                                      قال الربيع : اشتريت للشافعي طيبا بدينار ، فقال : ممن اشتريت ؟ قلت : من ذاك الأشقر الأزرق . قال : أشقر أزرق ! رده ، رده ، ما جاءني خير قط من أشقر . [ ص: 40 ]

                                                                                      أبو حاتم : حدثنا حرملة ، حدثنا الشافعي ، يقول : احذر الأعور ، والأعرج ، والأحول ، والأشقر ، والكوسج ، وكل ناقص الخلق ، فإنه صاحب التواء ، ومعاملته عسرة .

                                                                                      العكري : سمعت الربيع يقول : كنت أنا والمزني والبويطي عند الشافعي ، فنظر إلينا ، فقال لي : أنت تموت في الحديث ، وقال للمزني : هذا لو ناظره الشيطان ، قطعه وجدله ، وقال للبويطي : أنت تموت في الحديد قال : فدخلت على البويطي أيام المحنة ، فرأيته مقيدا مغلولا . وجاءه رجل مرة ، فسأله -يعني الشافعي - عن مسألة ، فقال : أنت نساج ؟ قال : عندي أجراء .

                                                                                      أحمد بن سلمة النيسابوري : قال أبو بكر محمد بن إدريس وراق الحميدي : سمعت الحميدي يقول : قال الشافعي : خرجت إلى اليمن في طلب كتب الفراسة حتى كتبتها وجمعتها .

                                                                                      وعن الربيع قال : مر أخي ، فرآه الشافعي ، فقال : هذا أخوك ؟ ولم يكن رآه . قلت : نعم .

                                                                                      أبو علي بن حمكان : حدثنا أحمد بن محمد بن هارون الهمذاني العدل ، حدثنا أبو مسلم الكجي ، حدثنا الأصمعي ، عن الشافعي : أصل [ ص: 41 ] العلم التثبيت ، وثمرته السلامة ، وأصل الورع القناعة ، وثمرته الراحة ، وأصل الصبر الحزم ، وثمرته الظفر ، وأصل العمل التوفيق ، وثمرته النجح ، وغاية كل أمر الصدق .

                                                                                      بلغنا عن الكديمي ، حدثنا الأصمعي ، قال : سمعت الشافعي يقول : العالم يسأل عما يعلم وعما لا يعلم ، فيثبت ما يعلم ، ويتعلم ما لا يعلم ، والجاهل يغضب من التعلم ، ويأنف من التعليم .

                                                                                      أبو حاتم : حدثنا محمد بن يحيى بن حسان ، سمعت الشافعي يقول : العلم علمان : علم الدين وهو الفقه ، وعلم الدنيا وهو الطب ، وما سواه من الشعر وغيره فعناء وعبث .

                                                                                      وعن الربيع قال : قلت للشافعي : من أقدر الفقهاء على المناظرة ؟ قال : من عود لسانه الركض في ميدان الألفاظ لم يتلعثم إذا رمقته العيون .

                                                                                      في إسنادها أبو بكر النقاش وهو واه .

                                                                                      وعن الشافعي : بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد .

                                                                                      قال يونس الصدفي : قال لي الشافعي : ليس إلى السلامة من [ ص: 42 ] الناس سبيل ، فانظر الذي فيه صلاحك فالزمه .

                                                                                      وعن الشافعي قال : ما رفعت من أحد فوق منزلته إلا وضع مني بمقدار ما رفعت منه .

                                                                                      وعنه : ضياع العالم أن يكون بلا إخوان ، وضياع الجاهل قلة عقله ، وأضيع منهما من واخى من لا عقل له .

                                                                                      وعنه : إذا خفت على عملك العجب ، فاذكر رضى من تطلب ، وفي أي نعيم ترغب ، ومن أي عقاب ترهب . فمن فكر في ذلك صغر عنده عمله .

                                                                                      آلات الرياسة خمس : صدق اللهجة ، وكتمان السر ، والوفاء بالعهد ، وابتداء النصيحة ، وأداء الأمانة .

                                                                                      محمد بن فهد المصري : حدثنا الربيع ، سمعت الشافعي يقول : من استغضب فلم يغضب ، فهو حمار ، ومن استرضي فلم يرض ، فهو شيطان .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية