الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 459 ] وهذه ترجمة أبي جعفر المنصور

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      هو عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم ، أبو جعفر المنصور . وكان أكبر من أخيه أبي العباس السفاح ، وأمه أم ولد ، اسمها سلامة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      روى عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يمينه . أورده الحافظ ابن عساكر من طريق محمد بن إبراهيم السلمي عن المأمون ، عن الرشيد ، عن المهدي ، عن أبيه المنصور به .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      بويع له بالخلافة بعد أخيه في ذي الحجة ، سنة ست وثلاثين ومائة ، وعمره يومئذ إحدى وأربعون سنة; لأنه ولد في سنة خمس وتسعين على المشهور في صفر منها بالحميمة ، وكانت خلافته ثنتين وعشرين سنة إلا أياما .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان أسمر اللون ، موفور اللمة ، خفيف اللحية ، رحب الجبهة ، أقنى الأنف بين القنا ، أعين كأن عينيه لسانان ناطقان ، تخالطه أبهة الملك ، وتقبله القلوب وتتبعه العيون يعرف الشرف في تواضعه ، والعتق في صورته ، واللب في مشيته . هكذا وصفه بعض من رآه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 460 ] وقد صح عن ابن عباس أنه قال : منا السفاح والمنصور والمهدي . وفي رواية : حتى يسلمها إلى عيسى ابن مريم ، عليه السلام . وقد روي مرفوعا ، ولا يصح رفعه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكر الخطيب البغدادي أن أمه سلامة قالت : رأيت حين حملت به كأنه خرج مني أسد ، فزأر وأقعى على يديه ، فما بقي أسد حتى جاء فسجد له .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد رأى المنصور في صغره مناما غريبا ، فكان يقول : ينبغي أن يكتب في ألواح الذهب ، ويعلق في أعناق الصبيان . قال : رأيت كأني في المسجد الحرام ، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة ، والناس مجتمعون حولها ، فخرج من عنده مناد فنادى : أين عبد الله؟ فقام أخي السفاح يتخطى الرجال حتى جاء باب الكعبة ، فأخذ بيده ، فأدخله إياها ، فما لبث أن خرج ومعه لواء أسود . ثم نودي : أين عبد الله؟ فقمت أنا وعمي عبد الله بن علي نستبق ، فسبقته إلى باب الكعبة ، فدخلتها ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر وعمر وبلال ، فعقد لي لواء ، وأوصاني بأمته ، وعممني عمامة كورها ثلاثة وعشرين كورا ، وقال : خذها إليك أبا الخلفاء إلى يوم القيامة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد اتفق سجن المنصور في أيام بني أمية ، فاجتمع به في السجن نوبخت [ ص: 461 ] المنجم ، وتوسم فيه الرياسة ، فقال له : ممن تكون؟ فلما عرف نسبه وكنيته قال : أنت الخليفة الذي يلي الأرض . فقال له : ويحك! ماذا تقول؟ فقال : هو ما أقول لك ، فضع لي خطك في هذه الرقعة أن تعطيني شيئا إذا وليت . فكتب له ، فلما ولي أكرمه المنصور ، وأعطاه وأسلم نوبخت على يديه ، وكان قبل ذلك مجوسيا ، ثم كان من أخص أصحاب المنصور عنده .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد حج المنصور بالناس سنة أربعين ومائة ، أحرم من الحيرة ، وفي سنة أربع وأربعين ، وفي سنة سبع وأربعين ، وفي سنة ثنتين وخمسين ، ثم في هذه السنة التي كانت فيها وفاته . وبنى مدينة السلام بغداد ، والرافقة ، وقصر الخلد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الربيع بن يونس الحاجب : سمعت المنصور يقول : الخلفاء أربعة; أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، والملوك أربعة; معاوية ، وعبد الملك بن مروان ، وهشام بن عبد الملك ، وأنا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال مالك : قال لي المنصور : من أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلت : أبو بكر ، وعمر . فقال : أصبت ، وذلك رأي أمير المؤمنين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وعن إسماعيل الفهري قال : سمعت المنصور على منبر عرفة يوم عرفة يقول : أيها الناس ، إنما أنا سلطان الله في أرضه ، أسوسكم بتوفيقه ورشده ، وخازنه على ماله ، أقسمه بإرادته ، وأعطيه بإذنه ، وقد جعلني الله عليه [ ص: 462 ] قفلا ، إذا شاء أن يفتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم فتحني ، وإذا شاء أن يقفلني عليه أقفلني ، فارغبوا إلى الله أيها الناس ، وسلوه - في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم فيه من فضله ما أعلمكم به في كتابه ، إذ يقول : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [ المائدة : 3 ] . أن يوفقني للصواب ، ويسددني للرشاد ، ويلهمني الرأفة بكم ، والإحسان إليكم ، ويفتحني لإعطائكم ، وقسم أرزاقكم بالعدل عليكم ، فإنه سميع مجيب .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد خطب يوما ، فاعترضه رجل وهو يثني على الله عز وجل ، فقال : يا أمير المؤمنين ، اذكر من أنت ذاكره ، واتق الله فيما تأتيه وتذره . فسكت المنصور حتى انتهى كلام الرجل ، فقال : أعوذ بالله أن أكون ممن قال الله ، عز وجل ، فيه : وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم [ البقرة : 206 ] . أو أن أكون جبارا عصيا ، أيها الناس ، إن الموعظة علينا نزلت ، ومن عندنا بينت . ثم قال للرجل : ما أظنك في مقالتك هذه تريد وجه الله ، وإنما أردت أن يقال : وعظ أمير المؤمنين . أيها الناس ، لا يغرنكم هذا فتفعلوا كفعله . ثم أمر به فاحتفظ به ، وعاد إلى خطبته فأكملها ، ثم قال لمن هو عنده : اعرض عليه الدنيا فإن قبلها فأعلمني ، وإن ردها فأعلمني . فما زال به الرجل الذي هو عنده حتى أخذ المال والجواري ، وولاه الحسبة والمظالم ، وأدخله على الخليفة في بزة حسنة ، وثياب وشارة حسنة ، فقال له الخليفة : ويحك! إنك لو كنت محقا لما قبلت شيئا مما أرى ، ولكن أردت أن يقال عنك : إنك وعظت أمير المؤمنين ، وخرجت عليه . [ ص: 463 ] ثم أمر به فضربت عنقه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد قال المنصور لابنه المهدي : إن الخليفة لا يصلحه إلا التقوى ، والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة ، والرعية لا يصلحها إلا العدل ، وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة ، وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أيضا : يا بني ، استدم النعمة بالشكر ، والقدرة بالعفو ، والطاعة بالتأليف ، والنصر بالتواضع والرحمة للناس ، ولا تنس نصيبك من الدنيا ونصيبك من رحمة الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وحضر عنده مبارك بن فضالة يوما ، وقد أمر برجل أن تضرب عنقه ، وأحضر النطع والسيف ، فقال له مبارك : سمعت الحسن يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا كان يوم القيامة نادى مناد : ليقم من أجره على الله . فلا يقوم إلا من عفا . فأمر بالعفو عن ذلك الرجل . ثم أخذ يعدد على جلسائه عظيم جرائمه وما كان صنعه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الأصمعي : أتي المنصور برجل ليعاقبه فقال : يا أمير المؤمنين ، الانتقام عدل ، والعفو فضل ، ونعيذ أمير المؤمنين بالله أن يرضى لنفسه بأوكس النصيبين ، دون أن يبلغ أرفع الدرجتين . قال : فعفا عنه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 464 ] قال الأصمعي : قال المنصور لرجل من أهل الشام : احمد الله يا أعرابي الذي رفع عنكم الطاعون بولايتنا . فقال : إن الله لا يجمع علينا حشفا وسوء كيل ; ولايتكم والطاعون . والحكايات في ذكر حلمه وعفوه كثيرة جدا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ودخل بعض الزهاد على المنصور ، فقال : إن الله أعطاك الدنيا بأسرها ، فاشتر نفسك ببعضها ، واذكر ليلة تبيت في القبر لم تبت قبلها ليلة ، واذكر ليلة تمخض عن يوم لا ليلة بعده . قال : فأفحم المنصور قوله ، وأمر له بمال فقال : لو احتجت إلى مالك لما وعظتك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد روي عن عمرو بن عبيد القدري أنه دخل على المنصور ، فأكرمه وعظمه وأدناه ، وسأله عن أهله وعياله ، ثم قال له ، عظني . فقرأ عليه أول سورة " الفجر " إلى قوله تعالى إن ربك لبالمرصاد [ الفجر : 14 ] . قال : فبكى المنصور بكاء شديدا حتى كأنه لم يسمع بهذه الآيات قبل تلك الساعة ثم قال : زدني . فقال : إن الله قد أعطاك الدنيا بأسرها ، فاشتر نفسك ببعضها ، وإن هذا الأمر كان لمن قبلك . ثم صار إليك ، ثم هو صائر لمن بعدك ، واذكر ليلة تسفر عن يوم القيامة . فبكى المنصور أشد من بكائه الأول حتى اختلف جفناه . فقال له سليمان بن مجالد : رفقا بأمير المؤمنين . فقال عمرو : وماذا على أمير المؤمنين أن [ ص: 465 ] يبكي من خشية الله عز وجل . ثم أمر له المنصور بعشرة آلاف درهم ، فقال : لا حاجة لي فيها . فقال المنصور : والله لتأخذنها . فقال : والله لا آخذنها . فقال له المهدي وهو جالس في سواده وسيفه ، إلى جنب أبيه : أيحلف أمير المؤمنين وتحلف أنت؟! فالتفت إلى المنصور ، فقال : ومن هذا؟ فقال : هذا ابني محمد المهدي ولي العهد من بعدي . فقال : أسميته اسما لم يستحقه بعمله هذا ، وألبسته لبوسا ما هو لبوس الأبرار ، ولقد مهدت له أمرا أمتع ما يكون به ، أشغل ما تكون عنه . ثم التفت إلى المهدي فقال : يابن أخي ، إذا حلف أبوك حلف عمك; لأن أباك أقدر على الكفارة من عمك . ثم قال المنصور : يا أبا عثمان ، هل من حاجة؟ قال : نعم . قال : وما هي؟ قال : لا تبعث إلي حتى آتيك . فقال : إذا والله لا نلتقي . فقال : عن حاجتي سألتني . فودعه وانصرف ، فلما ولى أبده بصره وهو يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كلكم يمشي رويد كلكم يطلب صيد     غير عمرو بن عبيد

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ويقال : إن عمرو بن عبيد أنشد المنصور قصيدة في موعظته إياه ، وهي قوله :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يا أيهذا الذي قد غره الأمل     ودون ما يأمل التنغيص والأجل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ألا ترى أنما الدنيا وزينتها     كمنزل الركب حلوا ثمت ارتحلوا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      حتوفها رصد وعيشها نكد     وصفوها كدر وملكها دول
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      تظل تقرع بالروعات ساكنها     فما يسوغ له لين ولا جدل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 466 ] كأنه للمنايا والردى غرض     تظل فيه بنات الدهر تنتضل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      تديره ما أدارته دوائرها     منها المصيب ومنها المخطئ الزلل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      والنفس هاربة والموت يطلبها     وكل عثرة رجل عندها جلل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      والمرء يسعى بما يسعى لوارثه     والقبر وارث ما يسعى له الرجل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن دريد ، عن الرياشي ، عن محمد بن سلام قال : رأت جارية للمنصور ثوبه مرقوعا فقالت : خليفة وقميصه مرقوع؟! فقال : ويحك! أما سمعت ما قال ابن هرمة :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه     خلق وجيب قميصه مرقوع

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومن شعره لما عزم على قتل أبي مسلم الخراساني :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة     فإن فساد الرأي أن تترددا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولا تمهل الأعداء يوما بقدرة     وبادرهم أن يملكوا مثلها غدا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما قتله ورآه طريحا بين يديه قال :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قد اكتنفتك خلات ثلاث     جلبن عليك محتوم الحمام
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      خلافك وامتناعك من يميني     وقودك للجماهير العظام

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 467 ] ومن شعره أيضا :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      المرء يأمل أن يعي     ش وطول عمر قد يضره
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      تبلى بشاشته ويب     قى بعد حلو العيش مره
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وتخونه الأيام حت     ى لا يرى شيئا يسره
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كم شامت بي إن هلك     ت وقائل لله دره

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قالوا : وكان المنصور في أول النهار يتصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والولايات والعزل ، والنظر في المصالح العامة ، فإذا صلى الظهر دخل منزله ، واستراح من بعد ذلك إلى العصر ، فإذا صلاها جلس لأهل بيته ومصالحهم الخاصة ، فإذا صلى العشاء نظر في الكتب والرسائل الواردة من الآفاق ، وجلس عنده من يسامره إلى ثلث الليل ، ثم يقوم إلى أهله ، فينام في فراشه إلى الثلث الآخر ، فيقوم إلى وضوئه وصلاته حتى يتفجر الصباح ، ثم يخرج فيصلي بالناس ، ثم يدخل فيجلس في إيوانه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد ولى بعض العمال على بلد ، فبلغه أنه قد تصدى للصيد ، وأعد لذلك الكلاب والبزاة ، فكتب إليه المنصور : ثكلتك أمك وعدمتك عشيرتك ، ويحك! إنا إنما استكفيناك أمور المسلمين ، ولم نستكفك أمور الوحوش ، فسلم ما كنت تلي من عملنا إلى فلان ، والحق بأهلك ملوما مدحورا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأتي يوما بخارجي قد هزم جيوش المنصور غير مرة ، فلما أوقف بين يديه [ ص: 468 ] قال له المنصور : ويحك! يا ابن الفاعلة ، مثلك يهزم الجيوش؟ فقال الخارجي : ويلك ، سوءة لك! بيني وبينك أمس السيف والقتل ، واليوم القذف والسب! وما يؤمنك أن أرد عليك وقد يئست من الحياة ، فلا تستقيلها أبدا؟! قال : فاستحيا منه المنصور وأطلقه . فما رأى له وجها إلى الحول .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أيضا : يا بني ، ليس العاقل من يحتال للأمر الذي وقع فيه حتى يخرج منه ، ولكنه الذي يحتال للأمر الذي غشيه حتى لا يقع فيه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال المنصور أيضا يوما لابنه المهدي : يا بني ، لا تجلس مجلسا إلا وعندك من أهل العلم من يحدثك; فإن الزهري قال : علم الحديث لا يحبه إلا ذكران الرجال ، ولا يكرهه إلا مؤنثوهم ، وصدق أخو زهرة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد كان المنصور في شبيبته يطلب العلم من مظانه والحديث والفقه ، فنال من ذلك جانبا جيدا ، وطرفا صالحا ، وقد قيل له يوما : يا أمير المؤمنين ، هل بقي شيء من اللذات لم تنله؟ قال : لا ، سوى شيء واحد . قالوا : وما هو؟ فقال : قول المحدث للشيخ : من ذكرت ، رحمك الله؟ فاجتمع وزراؤه وكتابه ، وجلسوا حوله ، وقالوا : ليمل علينا أمير المؤمنين شيئا من الحديث . فقال : لستم بهم ، إنما هم الدنسة ثيابهم ، المشققة أرجلهم ، الطويلة شعورهم ، برد الآفاق ، ونقلة الحديث .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 469 ] وقال المنصور يوما للمهدي : كم عندك راية؟ فقال : لا أدري . فقال : هذا هو التقصير ، أنت لأمر الخلافة أشد تضييعا ، فاتق الله يا بني .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقالت خالصة إحدى حظيات المهدي : دخلت يوما على المنصور وهو يشتكي ضرسه ، ويداه على صدغيه ، فقال لي : كم عندك من المال يا خالصة؟ فقلت : ألف درهم . فقال : ضعي يدك على رأسي واحلفي . فقلت : عندي عشرة آلاف دينار . قال : اذهبي فاحمليها إلي . قالت : فذهبت حتى دخلت على سيدي المهدي وهو مع وزوجته الخيزران ، فشكوت إليه ما قال أمير المؤمنين ، فركلني برجله ، وقال : ويحك! إنه ليس به وجع ، ولكني سألته بالأمس مالا ، فتمارض وإنه لا يسعك إلا ما أمرك به . فذهبت إليه خالصة ومعها عشرة آلاف دينار ، فاستدعى بالمهدي ، فقال له : تشكو الحاجة وهذا كله عند خالصة؟ !

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال المنصور لخازنه : إذا علمت بمجيء المهدي فائتني بخلقان الثياب قبل أن يجيء . فجاء بها فوضعها بين يديه ، ودخل المهدي والمنصور يقلبها ، فجعل المهدي يضحك ، فقال له : يا بني ، من ليس له خلق ما له جديد ، وقد حضر الشتاء فنحتاج نعين العيال والولد . فقال المهدي : علي كسوة أمير المؤمنين وعياله . فقال : دونك فافعل .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكر ابن جرير عن الهيثم ، أن المنصور أطلق في يوم واحد لبعض أعمامه ألف ألف درهم . وفي هذا اليوم فرق في أهل بيته عشرة آلاف درهم ، ولا يعلم [ ص: 470 ] خليفة فرق مثل هذا في يوم واحد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ بعض القراء عند المنصور : الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل [ الحديد : 24 ] . فقال : والله لولا أن المال حصن للسلطان ودعامة للدين والدنيا وعزهما وزينتهما ما بت ليلة واحدة وأنا أحرز منه دينارا ولا درهما; لما أجد لبذل المال من اللذاذة ، ولما أعلم في إعطائه من جزيل المثوبة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ عنده قارئ آخر : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط [ الإسراء : 29 ] . فقال : ما أحسن ما أدبنا ربنا عز وجل!

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال المنصور : سمعت أبي يقول : سمعت أبي; علي بن عبد الله يقول : سادة الناس في الدنيا الأسخياء ، وفي الآخرة الأتقياء .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما عزم المنصور على الحج في هذه السنة - أعني سنة ثمان وخمسين ومائة - دعا ولده المهدي ولي عهده من بعده فأوصاه في خاصة نفسه وفي أهل بيته وبسائر المسلمين خيرا ، وعلمه كيف يفعل الأشياء ، ويسد الثغور بوصايا يطول بسطها ، وحرج عليه أن لا يفتح شيئا من خزائن المسلمين حتى يتحقق وفاته; فإن بها من الأموال ما يكفي المسلمين لو لم يجب إليهم من الخراج درهم عشر سنين ، وعهد إليه أن يقضي ما عليه من الدين ، وهو ثلاثمائة ألف دينار ، [ ص: 471 ] فإنه لم ير قضاءها من بيت المال . فامتثل المهدي ذلك كله ، وأحرم المنصور بحج وعمرة من الرصافة ، وساق بدنه ، وقال : يا بني ، إني ولدت في ذي الحجة ، وقد وقع لي أني أموت في ذي الحجة ، وهذا هو الذي حداني على الحج عامي هذا . وودعه وسار ، واعتراه مرض الموت في أثناء الطريق ، فما دخل مكة إلا وهو مثقل جدا ، فلما كان بآخر منزل نزله دون مكة إذا في صدر منزله مكتوب : بسم الله الرحمن الرحيم .


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت     سنوك وأمر الله لا بد واقع
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أبا جعفر هل كاهن أو منجم     لك اليوم من كرب المنية مانع

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فدعا بالحجبة ، فأمرهم بقراءة ذلك ، فلم يروا شيئا ، فعرف أن أجله قد نعي إليه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قالوا : ورأى المنصور في منامه ، ويقال : بل هتف به هاتف ، وهو يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أما ورب السكون والحرك     إن المنايا كثيرة الشرك
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      عليك يا نفس إن أسأت وإن     أحسنت يا نفس كان ذاك لك
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ما اختلف الليل والنهار ولا     دارت نجوم السماء في الفلك
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إلا بنقل السلطان عن ملك     إذا انقضى ملكه إلى ملك
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      حتى يصيرا به إلى ملك     ما عز سلطانه بمشترك
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 472 ] ذاك بديع السماء والأرض وال     مرسي الجبال المسخر الفلك

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فقال المنصور : هذا والله أوان حضور أجلي وانقضاء عمري .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان قد رأى قبل ذلك في قصره الخلد الذي بناه وتأنق فيه ، مناما أفزعه ، فقال للربيع : ويحك يا ربيع! لقد رأيت مناما هالني; رأيت قائلا وقف في باب هذا القصر ، وهو يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كأني بهذا القصر قد باد آهله     وعري منه أهله ومنازله
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وصار رئيس القوم من بعد بهجة     إلى جدث تبنى عليه جنادله

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فما أقام في الخلد إلا أقل من سنة حتى خرج إلى الحج عامه هذا ، ومرض في طريق مكة ، فدخلها مدنفا ثقيلا . وكانت وفاته ليلة السبت لست - وقيل : لسبع - مضين من ذي الحجة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان آخر ما تكلم به أن قال : اللهم بارك لي في لقائك . ويقال : إنه قال : يا رب ، إن كنت عصيتك في أمور كثيرة فقد أطعتك في أحب الأشياء إليك; شهادة أن لا إله إلا الله مخلصا . ثم مات .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان نقش خاتمه : الله ثقة عبد الله ، وبه يؤمن .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان عمره يوم وفاته ثلاثا وستين سنة على المشهور; منها ثنتان وعشرون [ ص: 473 ] سنة في الخلافة ، ودفن بباب المعلى ، رحمه الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو جعفر ابن جرير : ومما رثي به أبو جعفر المنصور ، رحمه الله ، قول سلم الخاسر الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      عجبا للذي نعى الناعيان     كيف فاهت بموته الشفتان
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ملك إن غدا على الدهر يوما     أصبح الدهر ساقطا للجران
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ليت كفا حثت عليه ترابا     لم تعد في يمينها ببنان
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      حين دانت له البلاد على العس     ف وأغضى من خوفه الثقلان
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أين رب الزوراء قد قلدته ال     ملك عشرون حجة واثنتان
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إنما المرء كالزناد     إذا ما أخذته قوادح النيران
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ليس يثني هواه زجر ولا يق     دح في حبله ذوو الأذهان
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قلدته أعنة الملك حتى     قاد أعداءه بغير عنان
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يكسر الطرف دونه وترى الأي     دي من خوفه إلى الأذقان
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ضم أطراف ملكه ثم أضحى     خلف أقصاهم ودون الداني
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      هاشمي التشمير لا يحمل الثق     ل على غارب الشرود الهدان
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ذو أناة ينسى لها الخائف الخو     ف وعزم يلوي بكل جنان
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ذهبت دونه النفوس حذارا     غير أن الأرواح في الأبدان

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد دفن المنصور بثنية المعلى عند باب مكة ، ولا يعرف قبره; لأنه عمي قبره; فإن الربيع حفر مائة قبر ، ودفنه في غيرها لئلا يعرف .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية