الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثامنة : دلت الآية على إمامة الأئمة الأربعة ، وذلك لأنه تعالى وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الحاضرين في زمان محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو المراد بقوله : ( ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ) وأن يمكن لهم دينهم المرضي ، وأن يبدلهم بعد الخوف أمنا ، ومعلوم أن المراد بهذا الوعد بعد الرسول هؤلاء ؛ لأن استخلاف غيره لا يكون إلا بعده ، ومعلوم أنه لا نبي بعده لأنه خاتم الأنبياء ، فإذن المراد بهذا الاستخلاف طريقة الإمامة ، ومعلوم أن بعد الرسول الاستخلاف الذي هذا وصفه إنما كان في أيام أبي بكر وعمر وعثمان ؛ لأن في أيامهم كانت الفتوح العظيمة ، وحصل التمكين وظهور الدين والأمن ، ولم يحصل [ ص: 23 ] ذلك في أيام علي رضي الله عنه ؛ لأنه لم يتفرغ لجهاد الكفار لاشتغاله بمحاربة من خالفه من أهل الصلاة ، فثبت بهذا دلالة الآية على صحة خلافة هؤلاء ، فإن قيل : الآية متروكة الظاهر لأنها تقتضي حصول الخلافة لكل من آمن وعمل صالحا ولم يكن الأمر كذلك . نزلنا عنه ، لكن لم لا يجوز أن يكون المراد من قوله : ( ليستخلفنهم ) هو أنه تعالى يسكنهم الأرض ويمكنهم من التصرف لا أن المراد منه خلافة الله تعالى ، ومما يدل عليه قوله : ( كما استخلف الذين من قبلهم ) واستخلاف من كان قبلهم لم يكن بطريق الإمامة ، فوجب أن يكون الأمر في حقهم أيضا كذلك . نزلنا عنه ، لكن ههنا ما يدل على أنه لا يجوز حمله على خلافة رسول الله لأن من مذهبكم أنه عليه الصلاة والسلام لم يستخلف أحدا ، وروي عن علي عليه السلام أنه قال : أترككم كما ترككم رسول الله . نزلنا عنه ، لكن لم لا يجوز أن يكون المراد منه عليا عليه السلام ، والواحد قد يعبر عنه بلفظ الجمع على سبيل التعظيم ، كقوله تعالى : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) [القدر : 1] وقال في حق علي عليه السلام : ( الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) [المائدة : 55] نزلنا عنه ، ولكن نحمله على الأئمة الإثنى عشر .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن الأول : أن كلمة "من" للتبعيض فقوله : ( منكم ) يدل على أن المراد بهذا الخطاب بعضهم .

                                                                                                                                                                                                                                            وعن الثاني : أن الاستخلاف بالمعنى الذي ذكرتموه حاصل لجميع الخلق ، فالمذكور ههنا في معرض البشارة لا بد وأن يكون مغايرا له .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما قوله تعالى : ( كما استخلف الذين من قبلهم ) فالذين كانوا قبلهم كانوا خلفاء تارة بسبب النبوة ، وتارة بسبب الإمامة ، والخلافة حاصلة في الصورتين .

                                                                                                                                                                                                                                            وعن الثالث : أنه وإن كان من مذهبنا أنه عليه الصلاة والسلام لم يستخلف أحدا بالتعيين ، ولكنه قد استخلف بذكر الوصف والأمر بالاختيار فلا يمتنع في هؤلاء الأئمة الأربعة أنه تعالى يستخلفهم وأن الرسول استخلفهم ، وعلى هذا الوجه قالوا في أبي بكر : يا خليفة رسول الله ، فالذي قيل إنه عليه السلام لم يستخلف ، أريد به على وجه التعيين ، وإذا قيل استخلف فالمراد على طريقة الوصف والأمر .

                                                                                                                                                                                                                                            وعن الرابع : أن حمل لفظ الجمع على الواحد مجاز وهو خلاف الأصل .

                                                                                                                                                                                                                                            وعن الخامس : أنه باطل لوجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : قوله تعالى : ( منكم ) يدل على أن هذا الخطاب كان مع الحاضرين ، وهؤلاء الأئمة ما كانوا حاضرين .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أنه تعالى وعدهم القوة والشوكة والنفاذ في العالم ، ولم يوجد ذلك فيه فثبت بهذا صحة إمامة الأئمة الأربعة ، وبطل قول الرافضة الطاعنين على أبي بكر وعمر وعثمان ، وعلى بطلان قول الخوارج الطاعنين على عثمان وعلي ، ولنرجع إلى التفسير .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( ليستخلفنهم ) فلقائل أن يقول : أين القسم المتلقى باللام والنون في ( ليستخلفنهم ) ؟ قلنا : هو محذوف تقديره : وعدهم الله ليستخلفنهم ، أو نزل وعد الله في تحققه منزلة القسم فتلقي بما يتلقى به القسم كأنه قال : أقسم الله ليستخلفنهم .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( كما استخلف الذين من قبلهم ) يعني كما استخلف هارون ويوشع وداود وسليمان . وتقدير النظم : ليستخلفنهم استخلافا كاستخلاف من قبلهم من هؤلاء الأنبياء عليهم السلام ، وقرئ "كما استخلف" بضم التاء وكسر اللام ، وقرئ بالفتح .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ) فالمعنى أنه يثبت لهم دينهم الذي ارتضى لهم وهو الإسلام ، وقرأ ابن كثير وعاصم ويعقوب "وليبدلنهم" من الإبدال بالتخفيف ، والباقون بالتشديد ، وقد [ ص: 24 ] ذكرنا الفرق بينهما في قوله تعالى : ( بدلناهم جلودا غيرها ) [النساء : 56] .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( يعبدونني لا يشركون بي شيئا ) ففيه دلالة على أن الذين عناهم لا يتغيرون عن عبادة الله تعالى إلى الشرك ، وقال الزجاج : يجوز أن يكون في موضع الحال على معنى : ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ) في حال عبادتهم وإخلاصهم لله ، ليفعلن بهم كيت وكيت ، ويجوز أن يكون استئنافا على طريق الثناء عليهم .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( ومن كفر بعد ذلك ) أي جحد حق هذه النعم ( فأولئك هم الفاسقون ) أي العاصون .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية