الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              740 774 - حدثنا مسدد قال: حدثنا إسماعيل قال: حدثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أمر، وسكت فيما أمر وما كان ربك نسيا [مريم، 64] لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [الأحزاب: 21]. [فتح: 2 \ 253]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              هذا التعليق سلف الكلام عليه في الباب قبله

                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق حديث ابن عباس: انطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء .. الحديث بطوله؛ وفيه: وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا [ ص: 96 ] القرآن استمعوا له. فأنزل الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - قل أوحي إلي وإنما أوحي إليه قول الجن.

                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق قول عكرمة عن ابن عباس: قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أمر، وسكت فيما أمر وما كان ربك نسيا ، لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة .

                                                                                                                                                                                                                              وهذا من أفراد البخاري، والأول أخرجه مسلم أيضا ، وأخرجه البخاري في التفسير أيضا ، واستدركه الحاكم على شرطهما، وأنهما لم يخرجاه بهذه السياق، وإنما أخرج مسلم وحده حديث داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن علقمة، عن عبد الله بطوله بغير هذه الألفاظ .

                                                                                                                                                                                                                              والحديث الأول والثاني ظاهر فيهما ما ترجم له من الجهر بالقراءة في صلاة الفجر.

                                                                                                                                                                                                                              وأما الثالث فوجه الدلالة منه عموم قوله: (فيما أمر) يعني: جهر، بدليل قوله: (وسكت فيما أمر) أي: أسر، فيدخل الفجر في الذي جهر فيه اتفاقا، والدليل عليه قول خباب: إنهم كانوا يعرفون قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما أسر فيه باضطراب لحيته ، فسمى السر سكوتا، ولا يظن بالشارع أنه سكت في صلاة صلاها؛ لأنه قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"، وقال الإسماعيلي: إن سلم الحديث من قبل عكرمة من الطعن فالذي يصلح أن يوجه عنه أنه سكت عن الإعلان لا عن القراءة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 97 ] وقال الخطابي: لو شاء أن ينزل ذكر بيان أفعال الصلاة وأقوالها حتى يكون قرآنا متلوا لفعل، ولم يتركه عن نسيان، لكنه وكل الأمر في بيان ذلك إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ثم أمرنا بالاقتداء به، وهو معنى قوله لتبين للناس ما نزل إليهم [النحل: 44].

                                                                                                                                                                                                                              ولم تختلف الأمة في أن أفعاله التي في بيان مجمل الكتاب واجبة، كما لم يختلفوا في أن أفعاله التي هي من نوم وطعام وشراب وشبهها غير واجبة.

                                                                                                                                                                                                                              وإنما اختلفوا في أفعاله التي تتصل بأمر الشريعة مما ليس بيان مجمل الكتاب، فالذي نختار أنها واجبة.

                                                                                                                                                                                                                              وحديث ابن عباس دال على أن الشهب إنما رميت في أول الإسلام من أجل استراق الشياطين السمع، لكن رميها لم يزل قبل الإسلام، وعلى ممر الدهور، روى معمر أو غيره، عن الزهري ، عن علي بن حسين، عن ابن عباس في قوله تعالى: يجد له شهابا رصدا قال: بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - جالس في نفر من أصحابه إذ رمي بنجم فاستنار، فقال: "ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية؟ " قالوا: كنا نقول يموت عظيم، أو يولد عظيم؛ قال: "فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته، لكن ربنا تبارك اسمه إذا قضى أمرا يسبح حملة العرش، ثم يسبح أهل السماء الذي يلونهم حتى يبلغ التسبيح هذه السماء، ثم يستخبر أهل السماء حملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم، ثم يستخبر أهل كل سماء حتى ينتهي الخبر إلى السماء الدنيا، ويخطف الجن السمع فما جاءوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يزيدون فيه".

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 98 ] قلت للزهري: أو كان يرمى بها في الجاهلية؟ قال: نعم، قلت: أرأيت قوله تعالى وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا [الجن: 9] قال: غلظت، وشدد أمرها، حيث بعث إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                                                              وكذا قال الزمخشري وغيره: إن الصحيح إنه كان قبل المبعث أيضا، وقد جاء ذكره في شعر أهل البادية، وكانت تسترق في بعض الأحوال، فلما وقع البعث كثر الرجم، وزاد زيادة ظاهرة حتى تنبه لها الإنس والجن، ومنع الاستراق أصلا.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن الجوزي: الذي أميل إليه أن الشهب لم ترم إلا قبيل مولده، ثم استمر ذلك وكثر حين بعث.

                                                                                                                                                                                                                              فوائد:

                                                                                                                                                                                                                              الأولى: قرئ (وحي) على الأصل: (واحي).

                                                                                                                                                                                                                              و (النفر): جماعة منهم ما بين الثلاثة إلى العشرة، وفي "صحيح الحاكم" عن ابن مسعود: هبطوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ببطن نخلة وكانوا تسعة، أحدهم زوبعة. وقال: صحيح الإسناد .

                                                                                                                                                                                                                              الثانية: اختلف في أصلهم فقال الحسن: إنهم ولد إبليس، وكافرهم يسمى شيطانا، وعن ابن عباس: هم ولد الجان، والشياطين ولد إبليس.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 99 ] وأبعد من أنكر وجودهم، وإنما قيل: بإنكار تسلطهم على البشر، والصواب الذي لا شك فيه أنهم موجودون.

                                                                                                                                                                                                                              وهل هم أجسام أو جواهر قائمة بأنفسها؟ قولان.

                                                                                                                                                                                                                              وقام الاتفاق على تعذيبهم قال تعالى: لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين والصواب أن مؤمنيهم يدخل الجنة ينعم، قال تعالى: ولكل درجات مما عملوا بعد قوله: يا معشر الجن والإنس الآيات. وعن أبي حنيفة: لا، وإنما تحصل لهم النجاة من النار، قال تعالى: ويجركم من عذاب أليم ثم يصيرون ترابا.

                                                                                                                                                                                                                              الثالثة: كان خروجه - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف واستماع الجن بعد موت عمه وخديجة، وقبل المعراج، فلم يستجب له أحد، ورجع في جوار المطعم بن عدي، وذلك -يعني: خروجه- في شوال سنة عشر من النبوة، وكان معه زيد بن حارثة فاستمع له الجن وهو يقرأ سورة الجن، كذا في "طبقات ابن سعد"، وتأمل رواية البخاري التي سقناها فإن ظاهرها أن سورة الجن إنما نزلت بعد استماعهم .

                                                                                                                                                                                                                              الرابعة: زعم جماعة أن الشهب قد لا تصيبهم، منهم السهيلي، وهذا فائدة تعرضهم لذلك بعد علمهم به، ويجوز أن ينسوه لينفذ فيهم القضاء كما قيل في الهدهد أنه يرى الماء في تخوم الأرض، ولا يرى الفخ على ظاهرها.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن عباس: كانت لا تحجب عن السموات، فلما ولد عيسى منعت من ثلاث، فلما ولد نبينا منعت من الكل.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 100 ] الخامسة: إن قلت: أيزول الكوكب الذي رمي به؟

                                                                                                                                                                                                                              قلت: يجوز أن يفنى ويتلاشى، ويجوز أن لا، فربما فصل شعاع من الكوكب وأحرق، نبه عليه ابن الجوزي.

                                                                                                                                                                                                                              وقال النووي في قوله تعالى: رجوما للشياطين قيل: هو مصدر فتكون الكواكب هي الراجمة المحرقة بشهبها لا بأنفسها، وقيل: هو اسم فتكون هي بأنفسها التي ترجم بها، وتكون (رجوم) بمعنى رجم بفتح الراء.

                                                                                                                                                                                                                              خاتمة: في ألفاظ وقعت في الحديث الثاني.

                                                                                                                                                                                                                              (السوق): يذكر ويؤنث، قال في "الجامع": اشتقاقها من سوق الناس بضائعهم إليها، وقال ابن التين: لقيام الناس فيها على سوقهم.

                                                                                                                                                                                                                              و (عكاظ): سوق معروف بناحية مكة، وقيل: ما ذكره الزمخشري، وقد ذكره الأزهري ، وابن سيده ، والجوهري ، وغيرهم .

                                                                                                                                                                                                                              ولم يكن فيه عشور ولا خفارة، يذكر فيها الشعراء مما أحدثوه من الشعر، يصرف ولا يصرف.

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى (عامدين): قاصدين تهامة ، وهو نخل. قال: خرجه البخاري وقال: بنخلة، وهو الصواب.

                                                                                                                                                                                                                              و (الأسوة): بكسر الهمزة وضمها، قرئ بهما، ومعناها: القدوة.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية