الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالوطء في الدبر محرم بالكتاب والسنة، وهو قول أئمة المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وما روي خلاف ذلك عن بعضهم فليس موثوقاً فيه.
أما الكتاب فلقوله تعالى: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ. قال القرطبي : ومن بمعنى في ، أي في حيث أمركم الله تعالى وهو القبل. انتهى.
وقال ابن كثير: قال ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد: يعني الفَرْج.
و قوله تعالى: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ {البقرة:223}
قال السعدي: وفيه دليل على تحريم الوطء في الدبر، لأن الله لم يبح إتيان المرأة إلا في الموضع الذي منه الحرث. انتهى.
وقال البيضاوي: ومجيء { أنّى } بمعنى أين وكيف ومتى مما أثبته الجم الغفير، وتلزمها على الأول "مَنْ" ظاهرة أو مقدرة، وهي شرطية حذف جوابها لدلالة الجملة السابقة عليه، واختار بعض المحققين كونها بمعنى مِن أين أي من أي جهة ليدخل فيه بيان النزول، والقول بأن الآية حينئذ تكون دليلاً على جواز الاتيان من الأدبار ناشىء من عدم التدبر في أن "مَنْ" لازمة إذ ذاك فيصير المعنى من أي مكان لا في أي مكان فيجوز أن يكون المستفاد حينئذ تعميم الجهات من القدام والخلف والفوق والتحت واليمين والشمال لا تعميم مواضع الاتيان، فلا دليل في الآية لمن جوز إتيان المرأة في دبرها. انتهى.
أما قولك إن الأحاديث التي وردت في تحريم ذلك ضعيفة، وإنه لم يثبت فيه تحريم، فغير صحيح فقد صحّح العلماء أحاديث وردت في تحريم هذا الأمر، والتغليظ فيه، فمنها، قول رسول الله صلى الله عليه و سلم: لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأته في دبرها. رواه ابن ماجه، وصححه البوصيري، وحسنه الترمذي من حديث ابن عباس، وصححه إسحاق بن راهويه وابن الجارود وابن حبان وابن دقيق العيد، وصححه الألباني.
ومنها حديث أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: من أتى كاهنا فصدقه بما يقول، أو أتى امرأته حائضا، أو أتى امرأته في دبرها فقد برىء مما أنزل الله على محمد صلى الله عليه و سلم. رواه أبو داود، نقل المناوي عن الحافظ العراقي أنه قال في أماليه: حديث صحيح ، وعن الذهبي أنه قال : إسناده قوي وصححه الألباني.
وقال الشوكاني: ولا شك أن الأحاديث المذكورة في الباب القاضية بتحريم إتيان النساء في أدبارهن يقوي بعضها بعضا فتنتهض لتخصيص الدبر من ذلك العموم.
وأما ما نقل عن العلماء في ذلك فقال النووي: واتفق العلماء الذين يعتد بهم على تحريم وطء المرأة في دبرها ، حائضاً كانت أو طاهراً.
ولو صح نقل عن بعض أهل العلم فهو بمعنى إباحة إتيان المرأة من الدبر في قبلها وليس إتيانها في الدبر، قال ابن القيم في زاد المعاد: قلت: ومن هاهنا نشأ الغلط على من نقل عنه الإباحة من السلف والأئمة، فإنهم أباحوا أن يكون الدُّبر طريقاً إلى الوطء في الفرج، فيطأ من الدبر لا في الدبر، فاشتبه على السامع "من" ب "في" ولم يظن بينهما فرقاً، فهذا الذي أباحه السلف والأئمة، فغلط عليهم الغالط أقبح الغلط وأفحشه. اهـ.
والذي يدل على ذلك ما روي عن هؤلاء الأئمة خلاف ذلك، فهذا نص الشافعي -رحمه الله - في كتاب الأم: بابُ إتْيَانِ النِّسَاءِ في أَدْبَارِهِنَّ. قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قال اللَّهُ عز وجل { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ } الْآيَةُ ( قال الشَّافِعِيُّ ) وَإِبَاحَةُ الْإِتْيَانِ في مَوْضِعِ الْحَرْثِ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمَ إتْيَانٍ في غَيْرِهِ فَالْإِتْيَانُ في الدُّبُرِ حتى يَبْلُغَ منه مَبْلَغَ الْإِتْيَانِ في الْقَبْلِ مُحَرَّمٌ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ ثُمَّ السُّنَّةِ
وقال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: وحكي ذلك عن مالك في كتاب له يسمى "كتاب السر". وحذاق أصحاب مالك ومشايخهم ينكرون ذلك الكتاب ، ومالك أجل من أن يكون له "كتاب سر" ثم قال : والصحيح في هذه المسألة ما بيناه. وما نسب إلى مالك وأصحابه من هذا باطل وهم مبرؤون من ذلك. اهـ
وأما تشبيه هذا الفعل باللواط ، فهو صحيح، وإن كان اللواط أفظع منه.
قال ابن تيمية: والله سبحانه حرم إتيان الحائض مع أن النجاسة عارضة في فرجها، فكيف بالموضع الذي تكون فيه النجاسة المغلظة، وأيضا فهذا من جنس اللواط.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار: وأيضا قد حرم الله الوطء في الفرج لأجل الأذى، فما الظن بالحش الذي هو موضع الأذى اللازم مع زيادة المفسدة بالتعرض لانقطاع النسل الذي هو العلة الغائية في مشروعية النكاح والذريعة القريبة جدا الحاملة على الانتقال من ذلك إلى أدبار المرد. انتهى.
وقد وردت تسمية هذا الفعل باللوطية الصغرى، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: هي اللوطية الصغرى. يعني وطء النساء في أدبارهن. أخرجه الطحاوي بإسناد صحيح والطيالسي والبيهقي.
وروي أن أول عمل قوم لوط كان بإتيان النساء في أدبارهن.
قال القرطبي: وروي عن طاوس أنه قال : كان بدء عمل قوم لوط إتيان النساء في أدبارهن.
و عند الطبري في تفسير قوله تعالى: وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ. الأعراف (82):عن ابن عباس في قوله:( إنهم أناس يتطهرون ) ، قال: من أدبار الرجال ومن أدبار النساء.
وللفائدة راجع الفتاوى أرقام: 21843، 15921، 8130.
والله أعلم.