الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الوطء في الدبر هل يسعه الخلاف

السؤال

قرأت في كثير من كتب التراجم وشروح الحديث أن كثيرا من أهل العلم كانوا يجيزون نكاح المرأة من دبرها فالسؤال: هل تعتبر هذه المسألة مسألة خلافية لا يصح الإنكار فيها كغيرها من مئات المسائل الخلافية؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:

فإتيان المرأة في دبرها كبيرة من كبائر الذنوب وهي من المسائل التي لا يسوغ الخلاف فيها، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عما يجب على من وطئ زوجته في دبرها؟ وهل أباحه أحد من العلماء؟ فأجاب:
الحمد الله رب العالمين "الوطء في الدبر" حرام في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى ذلك عامة أئمة المسلمين، من الصحابة والتابعين وغيرهم، فإن الله تعالى قال في كتابه:نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُم [البقرة:223].
وقد ثبت في الصحيح، أن اليهود كانوا يقولون إذا أتى الرجل امرأته في قبلها من دبرها جاء الولد أحول، فسأل المسلمون عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الأية: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُم [البقرة:223].
و"الحرث" موضع الزرع، والولد إنما يزرع في الفرج لا في الدبر، "فأتوا حرثكم" وهو موضع الولد "أنى شئتم" أي من أين شئتم، من قبلها ومن دبرها وعن يمينها وعن شمالها، فالله تعالى سمى النساء حرثاً، وإنما رخص في إتيان الحروث، والحرث إنما يكون في الفرج، وقد جاء في غير أثر: أن الوطء في الدبر هو اللوطية الصغرى، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله لا يستحيي من الحق.. لا تأتوا النساء في حشوشهن. و"الحش" هو الدبر وهو موضع القذر، والله سبحانه حرم إتيان الحائض مع أن النجاسة عارضة في فرجها، فكيف بالموضع الذي تكون فيه النجاسة المغلظة؟! و"أيضاً" فهذا من جنس اللواط، ومذهب أبي حنيفة وأصحاب الشافعي وأحمد وأصحابه أن ذلك حرام لا نزاع بينهم، وهذا هو الظاهر من مذهب مالك وأصحابه، ولكن حكى بعض الناس عنهم رواية أخرى بخلاف ذلك، ومنهم من أنكر هذه الرواية وطعن فيها، وأصل ذلك ما نقل عن نافع أنه نقله عن ابن عمر، وقد كان سالم بن عبد الله يكذب نافعاً في ذلك.
فإما أن يكون نافع غلط أو غلط من هو فوقه، فإذا غلط بعض الناس غلطة لم يكن هذا مما يسوغ خلاف الكتاب والسنة.. كما أن طائفة غلطوا في إباحة الدرهم بالدرهمين، واتفق الأئمة على تحريم ذلك لما جاء في ذلك من الأحاديث الصحيحة، وكذلك طائفة غلطوا في أنواع من الأشربة، ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كل مسكر خمر، وكل خمر حرام.
وأنه سئل عن أنواع من الأنبذة؟ فقال: كل مسكر حرام. ما أسكر كثيره فقليله حرام. وجب اتباع هذه السنن الثابتة. ولهذا نظائر في الشريعة.
ومن وطئ امرأته في دبرها وجب أن يعاقبا على ذلك عقوبة تزجرهما، فإن علم أنهما لا ينزجران فإنه يجب التفريق بينهما.
انتهى
ومما تقدم يعلم السائل، أن هذه المسألة من المسائل التي يجب الإنكار فيها لأنه قد تيقن صحة أحد القولين.
قال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين: وقولهم إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها، ليس بصحيح، فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول، والفتوى، أو العمل.
أما الأول: فإذا كان القول يخالف سنة، أو إجماعاً شائعاً، وجب إنكاره اتفاقاً، وإن لم يكن كذلك: فإن بيان ضعفه ومخالفته للدليل، إنكار مثله، وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة، أو إجماع، وجب إنكاره بحسب درجات الإنكار، وكيف يقول فقيه "لا إنكار في المسائل المختلف فيها"، والفقهاء من سائر الطوائف قد صرحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتاباً أو سنة، وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء؟‍!
وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع، وللاجتهاد فيه مساغ، لم تنكر من عمل بها مجتهداً أو مقلداً.
وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم.
والصواب: ما عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً، مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه، فيسوغ فيها إذا عدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العمل به الاجتهاد لتعارض الأدلة، أو لخفاء الأدلة فيها.
وليس في قول العالم "إن هذه المسألة قطعية أو يقينية، لا يسوغ فيها الاختلاف" طعن على من خالفها، ولا نسبة له إلى تعمد خلاف الصواب.
والمسائل التي اختلف فيها السلف والخلف وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها: كثيرة.......، ولهذا صرح الأئمة بنقض حكم من حكم بخلاف كثير من هذه المسائل من غير طعن منهم على من قال بها.
وعلى كل حال: فلا عذر عند الله يوم القيامة لمن بلغه ما في المسألة -هذا الباب وغيره- من الأحاديث والآثار التي لا معارض لها إذا نبذها وراء ظهره، وقلد من نهاه عن تقليده، وقال له: لا يحل لك أن تقول بقولي إذا خالف السنة، وإذا صح الحديث فلا تعبأ بقولي، وحتى لو لم يقل له ذلك: كان هذا هو الواجب عليه وجوباً لا فسحة له فيه، وحتى لو قال له خلاف ذلك، لم يسعه إلا اتباع الحجة، ولو لم يكن في هذا الباب شيء من الأحاديث والآثار البتة: فإن المؤمن يعلم بالاضطرار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم أصحابه هذه الحيل، ولا يدلهم عليها.... وهذا القدر لا يحتاج إلى دليل أكثر من معرفة حقيقة الدين الذي بعث الله به رسوله.
انتهى
وقد بينا حكم المسألة أيضاً في الفتوى رقم:
8130.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني