الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد سبق لنا بيان حكم الموسيقى وما يثار حولها من شبهات في الفتويين رقم: 131423، ورقم: 130531، كما سبق لنا بيان ضوابط جواز مشاهدة أفلام الكرتون ونحوها، والمحاذير التي يشترط خلوها منها، ومن هذه المحاذير: اشتمالها على الموسيقى بحيث تكون مصاحبة للفيلم، وليس للمستخدم خيار في حذفها أو إلغائها وتعطيلها، فما كان كذلك فلا تجوز متابعته، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 3127.
وبذلك يتبين الجواب على السؤال الأخير، فإن خلت هذه الأفلام من كل المحاذير إلا الموسيقى، فكتم المشاهد لهذا الصوت أو تعطيله لا بأس بب فحيث فُقِد صوت الموسيقى زال حكمها ـ سواء كان ذلك بحذفها بالكلية أو تعطيلها ـ لأن العلة هي السماع.
وأما مسألة الحكم بجواز استماع الموسيقى تبعا، ما دامت ليست هي الأصل: فمما يستغرب ويستنكر، وهي دعوى تفتقر إلى دليل وبرهان فالأصل هو حرمة الموسيقى ـ سواء قصدت أصالة أو تبعا، فالأحكام ـ كما هو معلوم ـ تدور مع عللها وجودا وعدما ـ ومثل الذي يجيز ذلك كمثل الذي يجيز ظهور صور العورات ما دامت ليست هي الأصل ولا الغالب ولا المقصد الأصلي للمادة المعروضة!!.
وفرق واضح بين من يستمع للموسيقى قاصدا مختارا، وبين من يسمعها عرضا غير مختار، كأن يسمعها في الطريق مثلا، فهذا هو الذي يعفى عنه.
ومن ذلك ما رواه نافع ـ مولى ابن عمر ـ قال: سمع ابن عمر صوت زمارة راع فوضع إصبعيه في أذنيه وعدل راحلته عن الطريق وهو يقول: يا نافع أتسمع؟ فأقول: نعم، قال: فيمضي حتى قلت: لا، قال: فوضع يديه وأعاد الراحلة إلى الطريق وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع صوت زمارة راع فصنع مثل هذا. رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وصححه الألباني.
قال ابن رجب في نزهة الأسماع: إنما لم يأمر ابن عمر بسد أذنيه، لأنه لم يكن مستمعا، بل سامعا، والسامع من غير استماع لا يوصف فعله بالتحريم، لأنه عن غير قصده منه، وإن كان الأولى له سد أذنيه حتى لا يسمع. هـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: الأمر والنهي إنما يتعلق بالاستماع لا بمجرد السماع، كما في الرؤية، فإنه إنما يتعلق بقصد الرؤية لا بما يحصل منها بغير الاختيار، وكذلك في اشتمام الطيب إنما ينهى المحرم عن قصد الشم، فأما إذا شم ما لم يقصده فإنه لا شيء عليه.
وكذلك في مباشرة المحرمات كالحواس الخمس ـ من السمع والبصر والشم والذوق واللمس ـ إنما يتعلق الأمر والنهي من ذلك بما للعبد فيه قصد وعمل، وأما ما يحصل بغير اختياره، فلا أمر فيه ولا نهي، وهذا مما وجه به الحديث الذي في السنن عن ابن عمر ـ فذكر الحديث ـ وقال: فإن من الناس من يقول: بتقدير صحة هذا الحديث لم يأمر ابن عمر بسد أذنيه فيجاب بأنه كان صغيرا أو يجاب بأنه لم يكن يستمع، وإنما كان يسمع وهذا لا إثم فيه، وإنما النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك طلبا للأفضل والأكمل كمن اجتاز بطريق فسمع قوما يتكلمون بكلام محرم فسد أذنيه كيلا يسمعه فهذا حسن، ولو لم يسد أذنيه لم يأثم بذلك، اللهم إلا أن يكون في سماعه ضرر ديني لا يندفع إلا بالسد. هـ.
وجاء في شرح مشكل الآثار للطحاوي: هذا الحديث يدخل في هذا المعنى لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد امتنع من أن يدخل في أذنه شيء من ذلك الصوت المكروه، وإن كان في طريق لهم الاجتياز بها والسلوك فيها، فكان في مثل ذلك القعود لما قد دعي له الرجل الذي قد ذكرنا قعودا مباحا طرأ عليه أمر مكروه، فلا يسعه القعود المباح عند سماعه ما قد نهي عن سماعه في غير ذلك الموطن. هـ.
والله أعلم.