الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإيمان العبد بأن الله تعالى هو المتفرد بالخلق ـ ولا يخرج عن ذلك: كسب العبد وأفعاله ـ يوجب له شهود ربوبية الله تعالى التامة، وقهره لعباده ونفوذ سلطانه وقدره فيهم، ولا شك أن هذا من أعظم أسباب استكانة العبد لربه وخضوعه له وتوكله عليه وتضرعه بين يديه، ولا يتم المراد إلا بشهود آخر، وهو: كسب العبد لعمله وحصوله بقدرته واختياره، فينسب القصور والتقصير لنفسه ويعترف بذنبه، وهذا هو اعتقاد الأمة الوسط، قال ابن القيم: في مفتاح دار السعادة: الأمة الوسط أثبتت لله كمال الحكمة وكمال القدرة ... فتشهد عز الربوبية وقهر المشيئة ونفوذها في كل شيء، وتشهد مع ذلك فعلها وكسبها واختيارها وإيثارها شهواتها على مرضات ربها، فيوجب الشهود الأول لها: سؤال ربها والتذلل والتضرع له أن يوفقها لطاعته ويحول بينها وبين معصيته، وأن يثبتها على دينه ويعصمها بطواعيته، ويوجب الشهود الثاني لها: اعترافها بالذنب وإقرارها به على نفسها وأنها هي الظالمة المستحقة للعقوبة وتنزيه ربها عن الظلم وأن يعذبها بغير استحقاق منها أو يعذبها على ما لم تعمله فيجتمع لها من الشهودين شهود التوحيد والشرع، والعدل والحكمة. اهـ.
ولابن القيم ـ رحمه الله ـ فصل هام في كتاب مدارج السالكين عن مشاهد الخلق في المعصية، وهي ثلاثة عشر مشهدا:
1ـ مشهد الحيوانية وقضاء الشهوة.
2ـ ومشهد اقتضاء رسوم الطبيعة ولوازم الخلقة.
3ـ ومشهد الجبر.
4ـ ومشهد القدر.
5ـ ومشهد الحكمة.
6ـ ومشهد التوفيق والخذلان.
7ـ ومشهد التوحيد.
8ـ ومشهد الأسماء والصفات.
9ـ ومشهد الإيمان وتعدد شواهده.
10ـ ومشهد الرحمة.
11ـ ومشهد العجز والضعف.
12ـ ومشهد الذل والافتقار.
13ـ ومشهد المحبة والعبودية.
قال: فالأربعة الأول للمنحرفين، والثمانية البواقي لأهل الاستقامة، وأعلاها المشهد العاشر، وهذا الفصل من أجل فصول الكتاب وأنفعها لكل أحد، وهو حقيق بأن تثنى عليه الخناصر، ولعلك لا تظفر به في كتاب سواه .. اهـ.
وأقرب ما يعني السائل من هذه المشاهد هو المشهد الخامس والسادس، حيث يقول فيه ابن القيم: مشهد الحكمة وهو مشهد حكمة الله في تقديره على عبده ما يبغضه سبحانه ويكرهه، ويلوم ويعاقب عليه، وأنه لو شاء لعصمه منه، ولحال بينه وبينه، وأنه سبحانه لا يعصى قسرا، وأنه لا يكون في العالم شيء إلا بمشيئته: ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين { الأعراف: 54} وهؤلاء يشهدون أن الله سبحانه لم يخلق شيئا عبثا ولا سدى وأنه له الحكمة البالغة في كل ما قدره وقضاه من خير وشر، وطاعة ومعصية، وحكمة باهرة تعجز العقول عن الإحاطة بكنهها، وتكل الألسن عن التعبير عنها، فمصدر قضائه وقدره لما يبغضه ويسخطه اسمه الحكيم الذي بهرت حكمته الألباب، وقد قال تعالى لملائكته لما قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك { البقرة: 30} فأجابهم سبحانه بقوله: إني أعلم ما لا تعلمون {البقرة: 30} فلله سبحانه في ظهور المعاصي والذنوب والجرائم وترتب آثارها من الآيات والحكم، وأنواع التعرفات إلى خلقه، وتنويع آياته ودلائل ربوبيته ووحدانيته، وإلهيته، وحكمته، وعزته، وتمام ملكه، وكمال قدرته، وإحاطة علمه ما يشهده أولو البصائر عيانا ببصائر قلوبهم، فيقولون: ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك {آل عمران: 191} إن هي إلا حكمتك الباهرة، وآياتك الظاهرة.
ولله في كل تحريكة ... وتسكينة أبدا شاهد.
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد. اهـ.
وقال عن المشهد السادس مشهد التوحيد: وهو أن يشهد انفراد الرب تبارك وتعالى بالخلق والحكم، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه، وأن الخلق مقهورون تحت قبضته، وأنه ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابعه، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه، فالقلوب بيده، وهو مقلبها ومصرفها كيف شاء وكيف أراد، وأنه هو الذي آتى نفوس المؤمنين تقواها، وهو الذي هداها وزكاها، وألهم نفوس الفجار فجورها وأشقاها، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له، يهدي من يشاء بفضله ورحمته، ويضل من يشاء بعدله وحكمته، هذا فضله وعطاؤه، وما فضل الكريم بممنون، وهذا عدله وقضاؤه: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون { الأنبياء: 23} قال ابن عباس رضي الله عنه: الإيمان بالقدر نظام التوحيد، فمن كذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده، ومن آمن بالقدر صدق إيمانه توحيده، وفي هذا المشهد يتحقق للعبد مقام: إياك نعبد وإياك نستعين {الفاتحة: 5} علما وحالا، فيثبت قدم العبد في توحيد الربوبية، ثم يرقى منه صاعدا إلى توحيد الإلهية، فإنه إذا تيقن أن الضر والنفع، والعطاء والمنع، والهدى والضلال، والسعادة والشقاء كل ذلك بيد الله لا بيد غيره، وأنه الذي يقلب القلوب، ويصرفها كيف يشاء، وأنه لا موفق إلا من وفقه وأعانه، ولا مخذول إلا من خذله وأهانه وتخلى عنه، وأن أصح القلوب وأسلمها وأقومها وأرقها وأصفاها وأشدها وألينها: من اتخذه وحده إلها ومعبودا، فكان أحب إليه من كل ما سواه، وأخوف عنده من كل ما سواه، وأرجى له من كل ما سواه، فتتقدم محبته في قلبه جميع المحاب، فتنساق المحاب تبعا لها كما ينساق الجيش تبعا للسلطان، ويتقدم خوفه في قلبه جميع المخوفات، فتنساق المخاوف كلها تبعا لخوفه، ويتقدم رجاؤه في قلبه جميع الرجاء، فينساق كل رجاء تبعا لرجائه .. اهـ.
وراجع للفائدة الفتويين رقم: 105255، ورقم: 67357.
والله أعلم.