الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فحق الحياة حق أصيل للإنسان لا يجوز التعدي عليه إلا بحق، قال الشيخ الدكتور محمد كمال الدين جعيط في كتابه: الإسلام وحقوق الإنسان ـ حق الحياة من أقدس الحقوق البشرية على الإطلاق، وأولاها بالإثبات والحماية، بدليل أن الشرائع السماوية أجمعت على إقرار هذا الحق الأصلي، واعتباره من أوكد الكليات الخمس الواجب حفظها ومراعاتها، والإسلام حرَّم تحريمًا مشددًا قتل النفس البشرية بغير حقٍّ، وسدَّ كل أبواب الذرائع المؤدية إلى إتلافها وإهلاكها بإهمالها أو إيلامها أو تعذيبها أو تعرضيها إلى الخطر بأي شكل من الأشكال، قال تعالى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ {أنعام: 151}... اهـ.
وقال الشيخ الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي في كتابه: حقوق الإنسان في الإسلام ـ يعتبر الإنسان في المفهوم الإسلامي أكرم الكائنات وأشرفها، ومن أجله سخر الله ما في السماوات وما في الأرض، ومنحه نعمة العقل والتفكير والتدبر، فالكرامة الإنسانية، تستند في الإسلام إلى نظرية متكاملة، وهذا ما يميزها عن المفهوم الغربي القاصر، إن أسباب تلك الكرامة ومضمونها واضحة في تسخير ما في السماوات والأرض لخدمة الإنسان، ومن آثار هذه الكرامة أن حياة الفرد في قيمتها تكاد تتساوى مع حياة النوع البشري واستمراره، يقول الله تعالى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا {لمائدة: 32} تمنع كل التصرفات التي تنال من حق الحياة... اهـ.
وكذلك من الحقوق المكفولة للإنسان في الإسلام حق المساواة بفهومها العادل، وهو الذي يقوم على التسوية بين البشر من حيث الأصل والكيان البشري، مع التفريق بينهم في ما يختلفون فيه من مقومات، كالتفريق بين الرجال والنساء، وبين الأغنياء والفقراء، وبين المرضى والأصحاء، في بعض الأحكام المتعلقة بهذه الأوصاف، ليعطى كل ذي حق حقه ولا يكلَّف أحد فوق طاقته، هذا مع وضع معيار عام للتفاضل الكسبي، وهو التقوى، بعد المساواة في ما يتعلق بالجنس البشري، قال الدكتور التركي: تعد المساواة بين الناس على اختلاف الأجناس والألوان واللغات، مبدأ أصيلا في الشرع الإسلامي، ولم يكن هذا المبدأ على أهميته وظهوره، قائما في الحضارات القديمة ... فهي تسوية أصلية بحكم الشرع، ومضمونها محدد، وأساليب تطبيقها واضحة، والجزاء عند مخالفتها قائم، وهو جزاء دنيوي وأخروي، إن التسوية بين البشر، تعني التسوية بينهم في حقوق الكيان الإنساني، الذي يتساوى فيه كل الناس، أما التسوية الحسابية في الحقوق الفرعية التي تؤدي إلى المساواة بين غير المتماثلين، فإنها معنى يختلف عن التسوية في الآدمية التي كرمها الله، والتي تستند إلى مبادئ ثابتة وأصل واضح، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا {النساء: 1} فالناس كلهم من نفس واحدة، ويبين الحديث الشريف هذا الأصل في المساواة: إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، والناس بنو آدم، وآدم من تراب، لينتهين أقوام عن فخرهم برجال أو ليكونن أهون عند الله من عدتهم من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن ـ هذه قاعدة الإسلام الأصلية في المساواة، كما تحددت في آيات القرآن الكريم، وبينتها السنة المشرفة، وحينما تختلف أحوال الناس وأوضاعهم، وتختلف أزمنتهم وأمكنتهم، ويوجد التنوع في الأجناس والألوان واللغات، والغنى والفقر، والقوة والضعف، والعلم والجهل، ويختلف الموقع الاجتماعي والاقتصادي بين الناس، حينذاك تفرض المجتمعات معايير للتفاضل بين الناس، إزاء هذا التنوع والاختلاف، ولا بد من وضع معيار للتفاضل، لأن المساواة المطلقة لا تكون إلا في الكيان الإنساني، والمشكلة تبدأ عند وضع هذا المعيار، بحيث لا يخل بمبدأ المساواة في ذاته، ويجعل التفاضل وسيلة نمو ورقي، وليس ذريعة للظلم والتفرقة بين الناس، وهذا ما جاء في الشرع الإسلامي، فقد ترك كل المعايير السائدة للتفاضل، كالقوة والضعف والموقع الاجتماعي، أو الاقتصادي، أو الطبقة التي ينتمي إليها الإنسان، أو الجنس واللون، فكل هذه المعايير كانت قائمة في المجتمعات القديمة، حتى أنكر بعض الفلاسفة الأقدمين مبدأ المساواة ذاته، مثل أفلاطون الذي قرر أن بعض الناس خلقوا للحكم والسيطرة، وبعضهم خلق لكي يكون محكوما يعمل من أجل غيره، وجاء في الإسلام معيار للتفاضل يتساوى أمامه الخلق جميعا على اختلاف الأجناس والألوان، والحرية والعبودية، إنه معيار التقوى، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ {الحجرات: 13} إن معيار التفاضل هنا، يستطيع الارتقاء إليه كل البشر، ولا يقسم الناس إلى طبقات يعلو بعضها بعضا، وهو معيار يدفع إلى الرقي والسمو بالإنسان. اهـ.
ثم نقول للأخ السائل: إن مجرد الميل الذي لا يرقى لأن يكون عزيمة أو تصميما، ولا يترتب عليه قول ولا فعل، لا يعاقب عليه الإنسان مهما كان سيئا، بل إن مجاهدة صاحبه له، علامة على تقواه، وتعد من الطاعات الكبار التي يستحق عليها الثواب والمدح، كما روى الإمام أحمد في كتاب الزهد عن مجاهد، قال: كُتب إلى عمر رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين؛ رجل لا يشتهي المعصية ولا يعمل بها، أفضل، أم رجل يشتهي المعصية ولا يعمل بها؟ فكتب عمر رضي الله عنه: إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم.
وعلى ذلك، فلا يجوز محاسبة الإنسان ومعاقبته أو ازدراؤه على مجرد ميل يوجد فيه بغير تكلف، ولا يتبع فيه نفسه هواها، بل ينبغي أن يعان على الخير واجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن! وعلى من ابتلي بشيء من ذلك أن يتحلى بالصبر الجميل، على مجاهدة ما يجده بداخله من ميل منحرف، وعلى ما يجده من معاملة الناس له، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، أعظم أجرا من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم. رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني.
وراجع للأهمية الفتاوى التالية أرقامها: 28167، 175935، 267475.
ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتويين رقم: 7413، ورقم: 5453.
والله أعلم.