الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد أمر الله تعالى في هذه الآية الكريمة بطاعته وطاعة رسوله -صلى الله عليه سلم-، وولاة الأمر منّا، بعد أن أمر سبحانه ولاة الأمور في الآية التي قبلها بأداء الأمانات والحكم بالعدل، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 58، 59]. وعلى هاتين الآيتين بنى شيخ الإسلام ابن تيمية رسالته المشهورة في السياسة الشرعية لإصلاح الراعي والرعية، فقال: هذه الرسالة مبنية على آيتين في كتاب الله، وهما قوله تعالى -فذكر الآيتين، ثم قال:- قال العلماء: نزلت الآية الأولى في ولاة الأمور؛ عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، ونزلت الثانية في الرعية من الجيوش وغيرهم؛ عليهم أن يطيعوا أولي الأمر الفاعلين لذلك في قسمهم وحكمهم ومغازيهم وغير ذلك، إلا أن يأمروا بمعصية الله، فإذا أمروا بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فإن تنازعوا في شيء ردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وإن لم تفعل ولاة الأمر ذلك، أُطِيعوا فيما يأمرون به من طاعة الله ورسوله، لأن ذلك من طاعة الله ورسوله، وأديت حقوقهم إليهم كما أمر الله ورسوله، قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة: 2]. اهـ.
فظهر بذلك أن وجود المعارضة السياسية بمعناها العرفي المعاصر ليس من بينات هذه الآية، فيُرجع في حكمها إلى الأدلة الأخرى التي تحكم عليها بحسب حقيقتها وأثرها وغايتها، ثم بحسب الواقع وملابساته ومتغيراته، وما يقترن به من مصالح أو مفاسد.
وإنما تدل الآية على كيفية معالجة أمر الخلاف بين عامة الناس وأولي الأمر، أو بين أولي الأمر أنفسهم، على الوجهين في تفسير أولي الأمر، ثم في بيان أطراف التنازع المذكور في الآية؛ قال البيضاوي في تفسيره (أنوار التنزيل): {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} يريد بهم أمراء المسلمين في عهد الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- وبعده، ويندرج فيهم الخلفاء والقضاة وأمراء السرية. أمر الناس بطاعتهم بعد ما أمرهم بالعدل تنبيهًا على أن وجوب طاعتهم ما داموا على الحق. وقيل: علماء الشرع؛ لقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}. {فَإِنْ تَنازَعْتُمْ} أنتم وأولو الأمر منكم {فِي شَيْءٍ} من أمور الدين، وهو يؤيد الوجه الأول؛ إذ ليس للمقلد أن ينازع المجتهد في حكمه، بخلاف المرؤوس، إلا أن يقال: الخطاب لأولي الأمر على طريقة الالتفات. {فَرُدُّوهُ} فراجعوا فيه {إِلَى اللَّهِ} إلى كتابه. {وَالرَّسُولِ} بالسؤال عنه في زمانه، والمراجعة إلى سنته بعده. اهـ.
وقال الشهاب في حاشيته علي تفسير البيضاوي: قوله: (أنتم وأولو الأمر منكم .. إلخ) يعني الخطاب عام للمؤمنين مطلقًا، وخصص الشيء بأمر الدين بدليل ما بعده، ووجه التأييد أن للناس والعامّة منازعة الأمراء في بعض الأمور، وليس لهم منازعة العلماء؛ إذ المراد بهم المجتهدون، والناس ممن سواهم لا ينازعونهم في أحكامهم. والمراد بالمرؤوس -على وزن المفعول- العامة التابعة للرائس والرئيس، فإذا كان الخطاب في {تنازعتم} لأولي الأمر على الالتفات صح إرادة العلماء؛ لأن للمجتهدين أن ينازع بعضهم بعضًا مجادلة ومحاجة، فيكون المراد أمرهم بالتمسك بما يقتضيه الدليل. اهـ.
ومن أوضح ما تُفسَّر به الآية من الواقع العملي لأئمة الرشد وخلفائه، ما روي عن أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، ففي مصنف عبد الرزاق عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: قال عمر بن الخطاب: «لا تغالوا في مهور النساء». فقالت امرأة: ليس ذلك لك يا عمر، إن الله يقول: «وإن آتيتم إحداهن قنطارًا من ذهب» -قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله- «فلا يحل لكم أن تأخذوا منه شيئًا» فقال عمر: «إن امرأة خاصمت عمر فخصمته». اهـ.
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): وأخرجه الزبير بن بكار من وجه آخر منقطع، فقال عمر: امرأة أصابت ورجل أخطأ. وأخرجه أبو يعلى من وجه آخر عن مسروق عن عمر، فذكره متصلًا مطولًا. اهـ.
فهذه المرأة تنازعت مع خليفة راشد وعالم راسخ، فردت الخلاف إلى كتاب الله تعالى، فخصمته! ولذلك قال ابن كثير في تفسير الآية: هذا أمر من الله -عز وجل-، بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة، كما قال تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} [الشورى:10]، فما حكم به كتاب الله وسنة رسوله وشهدا له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال. اهـ.
وأما معنى {تنازعتم} فقال القرطبي: أي: تجادلتم واختلفتم، فكأن كل واحد ينتزع حجة الآخر ويذهبها. والنزع الجذب. والمنازعة مجاذبة الحجج ... (في شيء) أي: من أمر دينكم. (فردوه إلى الله والرسول) أي: ردوا ذلك الحكم إلى كتاب الله أو إلى رسوله بالسؤال في حياته، أو بالنظر في سنته بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم-، هذا قول مجاهد، والأعمش، وقتادة، وهو الصحيح. اهـ.
وقال الجزائري في (أيسر التفاسير): {تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ}: اختلفتم فيه، كل فريق يريد أن ينتزع الشيء من يد الفريق الآخر ... وقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} فهو خطاب عام للولاة والرعية، فمتى حصل خلاف في أمر من أمور الدين والدنيا وجب رد ذلك إلى كتاب الله وسنة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما حكما فيه وجب قبوله حلوًا كان أو مرًّا. اهـ.
وأما علاقة هذه الآية بالسياسة الشرعية، فقال المراغي في تفسيره: {وَأُولِي الْأَمْرِ} هم الأمراء، والحكام، والعلماء، ورؤساء الجند، وسائر الرؤساء، والزعماء الذين يرجع إليهم الناس في الحاجات والمصالح العامة، فهؤلاء إذا اتفقوا على أمر وحكم، وجب أن يطاعوا فيه بشرط أن يكونوا أمناء، وألا يخالفوا أمر الله ولا سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- التي عرفت بالتواتر، وأن يكونوا مختارين في بحثهم في الأمر واتفاقهم عليه ... (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) أي: فإذا لم يوجد نص على الحكم في الكتاب ولا في السنة ينظر أولو الأمر فيه، لأنهم هم الذين يوثق بهم، فإذا اتفقوا وأجمعوا وجب العمل بما أجمعوا عليه، وإن اختلفوا وتنازعوا وجب عرض ذلك على الكتاب والسنة وما فيهما من القواعد العامة، فما كان موافقًا لهما علم أنه صالح لنا ووجب الأخذ به، وما كان مخالفًا لهما علم أنه غير صالح ووجب تركه، وبذا يزول التنازع وتجتمع الكلمة، وهذا الرد واستنباط الفصل في الخلاف من القواعد هو الذي يعبر عنه بالقياس، والأول هو الإجماع الذي يعتدّ به.
ومما تقدم تعلم أن الآية مبينة لأصول الدِّين في الحكومة الإسلامية، وهي:
1) الأصل الأول: القرآن الكريم، والعمل به هو طاعة الله تعالى.
2) الأصل الثاني: سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والعمل به طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
3) الأصل الثالث: إجماع أولى الأمر، وهم أهل الحل والعقد الذين تثق بهم الأمة ...
4) الأصل الرابع: عرض المسائل المتنازع فيها على القواعد والأحكام العامة المعلومة في الكتاب والسنة، وذلك قوله: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول}.
فهذه الأربعة الأصول هي مصادر الشريعة، ولا بد من وجود جماعة يقومون بعرض المسائل المتنازع فيها على الكتاب والسنة ممن يختارهم أولو الأمر من علماء هذا الشأن. ويجب على الحكام الحكم بما يقرّونه، وبذلك تكون الدولة الإسلامية مؤلفة من جماعتين:
الأولى: الجماعة المبينة للأحكام الذين يسمون الآن (الهيئة التشريعية).
والجماعة الثانية: جماعة الحاكمين والمنفذين وهم الذين يسمون (الهيئة التنفيذية).
وعلى الأمة أن تقبل هذه الأحكام وتخضع لها سرًّا وجهرًا، وهي بذلك لا تكون خاضعة لأحد من البشر، لأنها لم تعمل إلا بحكم الله تعالى أو حكم رسوله -صلى الله عليه وسلم- بإذنه، أو حكم نفسها الذي استنبطه لها جماعة أهل الحل والعقد والعلم والخبرة من أفرادها الذين وثقت بإخلاصهم وعدم اتفاقهم إلا على ما هو الأصلح لها. اهـ.
وقال الدكتور/ وهبة الزحيلي في (التفسير الوسيط): فطاعة الله والرسول واجبة، بتنفيذ أحكام الله واتباع سنة رسول الله، وكذلك تجب طاعة ولاة الأمر من أهل الحل والعقد في الأمة، أي: السلطة التنفيذية في الأمة، وأولي الاجتهاد في التشريع من العلماء والحكام والولاة العدول، فإن حدث تنازع واختلاف في وجهات النظر، فالواجب رد الأمر إلى نظيره ومثيله في القرآن والسنة، ولا يفهم ذلك إلا العلماء الأعلام المخلصون لله ورسوله. اهـ.
وهكذا ينبغي أن يكون دأب الأمة الإسلامية بأسرها عند حصول الخلاف، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}، وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدِّين. اهـ.
وأخيرًا ننبه على أن مناصحة ولاة الأمور أصل من أصول أهل السنة، وليس من الخروج عليهم في شيء، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 131052. وراجع في بيان موقف الحاكم المسلم تجاه الأحكام الخلافية الفتوى رقم: 151077. وراجع للفائدة عن مسألة الخروج على الحاكم، الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 216631، 194463، 194295.
والله أعلم.