الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الرؤية الشرعية في الخروج على حاكم كافر أو مرتد

السؤال

سؤالي بالتحديد عن الوضع الحالي في سوريا. فبين مؤيد لها من العلماء، ومعارض لها، تشتت الناس، وخاصة من ليس له اطلاع على الأحاديث، أو ضيق في فهم الأحاديث والدلائل الشرعية. ولكن الحقيقة أن نفسي بدأت توسوس لي بسوء، وهذا ما جعلني ألجأ إلى سؤالكم أيها الأفاضل. فعند ما حرم العلماء الخروج على نظام الحكم في سوريا، حرمه البعض على أنه خروج على ولي الأمر، وهو لم يأت بكفر بواح. وحرمه آخرون مع إقرارهم بكفر النصيرية، والنظام البعثي، ولكن لدرء المفاسد والأخذ بأقل الأضرار، وعدم سفك دماء المسلمين مع قلة الجاهزية للخروج عليه. والحقيقة أن الأمر اختلط علي في كلتا الحالتين، فالإسلام دين عز وقوة وجهاد بالنفس. فكيف أرضى الذل من أحد أقل ما يقال عنه وطائفته الفسق والفجور، وهم لصوص لأفكار وعقيدة أمة وشعب، وحتى إنهم يمنعون الشعب من تعلم العقيدة الصحيحة وغيرها الكثير الكثير، وبالتأكيد أنتم على اطلاع كبير على حالهم وأفعالهم. فكيف أرضى هنا بالذل على نفسي، أو على مسلم غيري من هؤلاء؟ فإن ارتضيته بموجب الأحاديث التي تنص على عدم الخروج على الحاكم، فهنا أقول الحاكم المسلم الذي إذا ظلم قام بظلم شخص، أو قام بظلم ما، لا محاربة للدين، ونشر لعقائد فاسدة يسمح بها دون غيرها من اثنى عشرية، إلى صوفية، ومنع لكتب التوحيد والعقيدة، والسماح لكتب الشرك والجهالة. كيف بعد كل ذلك أستطيع أن أمنع نفسي عن الوساوس التي تدور في عقلي عن ذلك الأمر، فإن كان الأول عدم تكفيره والخروج عليه إلا بكفر بواح. وإن كان الثاني ... فأين التوكل على الله والوثوق بنصره؟ أين الأخذ على يد الظالم في ذلك؟ أرجو من فضيلتكم تفهم موقفي والإجابة عن أسئلتي، وعدم المؤاخذة، ولكن حقيقة أن الأمر بات يؤرقني حتى أوصلني في بعض الأحيان لأن أقول إنني لا أؤمن بدين يرتضي لي الذل؛ لأن إيماني هو أن الله أعزني بديني، وأعز الأمة بدينها. فكيف بعد ذلك كله أرتضي من المهانة والذل منهم ما فيه استعباد وليس ذلا وإهانة فقط؟ أعتذر مرة أخرى على الإطالة، وأسلوب السؤال والشكر الجزيل لكم.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فمما يشكر للأخ السائل حرصه على معرفة الحق والعمل به، والسؤال عما أشكل عليه، ونسأل الله تعالى أن يهدينا جميعا لما اختلف فيه من الحق بإذنه.
ولتفصيل الجواب للأخ السائل نقول: قد تقدم لنا الحكم على النصيرية وعلى من اعتقد عقائدهم، وذلك في الفتوى رقم: 95311. ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتوى رقم: 130552.
وأما الحال الثانية التي ذكرها الأخ السائل، فإيضاحها يبدأ بتقرير مبدأ أن الشريعة مبناهها على جلب المصالح ودرء المفاسد، فإذا تزاحما اغتفر تفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما، كما يغتفر ارتكاب أدنى المفسدتين لاجتناب أعلاهما. وبذلك يُعرف أن الشيء الذي يحكم بتحريمه قد يكون فيه مصلحة من بعض الوجوه، ولكنها تهدر إذا غلبت المفاسد. وكذلك الشيء الذي يحكم بوجوبه أو استحبابه قد يكون فيه مفسدة من بعض الوجوه، ولكنها تهدر إذا غلبت المصالح.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله-: الواجب تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناهما هو المشروع. اهـ.
وقال أيضا: السيئة تحتمل في موضعين: دفع ما هو أسوأ منها إذا لم تدفع إلا بها، وتحصيل ما هو أنفع من تركها إذا لم تحصل إلا بها ... وذلك ثابت في العقل؛ كما يقال : ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين. اهـ.
وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم أن تغيير المنكر باليد قد يُعجز عنه، وكذلك تغييره باللسان، فقال صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان. رواه مسلم.

وهذا إنما يكون باعتبار القدرة والاستطاعة، والموازنة بين المصلحة والمفسدة.

قال ابن القيم في (إعلام الموقعين): إنكار المنكر أربع درجات: الأولى: أن يزول ويخلفه ضده. الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته. الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله. الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه. فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة. اهـ. وراجع الفتوى رقم: 9358.

ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار القدوة الطيبة، والأسوة الحسنة. ومن ذلك ما حدث في غزوة الأحزاب، لما اشتد الحال بالمسلمين وطال عليهم الحصار، أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصالح عيينة بن حصن والحارث بن عوف رئيسي غطفان على ثلث ثمار المدينة، وينصرفا بقومهما، وجرت المراوضة على ذلك، كما قال ابن القيم في (زاد المعاد).
ومن ذلك احتمال من كان في شروط صلح الحدبية من الوضيعة على المسلمين، حتى لقد قال عمر- رضي الله عنه-: علام نعطي الدنية في ديننا؟ رواه البخاري ومسلم. وراجع في ذلك الفتوى رقم: 71117.
ومن ذلك انسحاب خالد بن الوليد- رضي الله عنه- بالجيش في غزوة مؤتة، وانحيازه بالمسلمين إلى المدينة.
وإذا تقرر هذا، فمَن منع من أهل العلم مِن الخروج على حاكم كافر أو مرتد باعتبار درء أكبر المفسدتين: لا يقال في حقه إنه يرتضي الذل والمهانة للمسلمين !! وغاية الأمر أن يناقَش ويحاوَر في تقدير المصالح والمفاسد، للوصول إلى تقدير صحيح وموازنة عادلة بينهما، مع مراعاة أن الحكم بغلبة المفاسد لا يعني انتهاء الأمر، فإنه لا بد على أية حال أن ينشغل المسلمون بالاستفادة بالقدر المتاح من وسائل الدفع، والاجتهاد في تحصيل المتعذر منها، والإعداد الذي أمر الله به لإرهاب عدو الله وعدونا.
ومن تدبر هذا علم أن من محاسن الشريعة: أنها جعلت الاستطاعة مناط التكليف، وفرقت بين حال القدرة وحال العجز، وبين حال الاختيار وحال الاضطرار، وبين حكم الرخصة وحكم العزيمة، وبين منزلة الواجب ومنزلة المستحب. فإن الشريعة لم تأت لتناسب حال فئة ضيقة من الناس في مكان أو زمان مخصوص، وإنما جاءت للناس كافة في كل زمان ومكان، وفيهم الضعيف والمستضعف، والعاجز والمريض ونحوهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه. قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيق. رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد، وصححه الألباني.
ومع هذا فلا بد من التنبيه على أن المعنى الذي يتحرك في نفس السائل الكريم لا بد من مراعاته في غير حال الضرورة والحاجة الملحة، فقد قال الله تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ [المنافقون: 8] وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة: 38] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقدس أمة لا يقضى فيها بالحق، ولا يأخذ الضعيف حقه من القوي غير متعتع. قال المنذري: رواه الطبراني؛ ورواته ثقات. اهـ. وصححه الألباني. قال ابن الأثير: "غير متعتع" بفتح التاء، أي من غير أن يصيبه أذى يقلقله ويزعجه. اهـ. قال المناوي في (التيسير): أفاد أن ترك إزالة المنكر مع القدرة عظيم الإثم. اهـ.

وراجع الفتوى رقم: 80294.
وبالنسبة للوضع في سوريا فراجع فيه الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 177315، 187823، 172661، 173345.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني