الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن مراحل النطفة والعلقة والمضغة، تكون كلها في الأربعين يومًا الأولى من الحمل، وتصوير الجنين على هيئة الإنسان يكون في الأربعين الثانية من الحمل، ويبين هذا حديث حذيفة بن أسيد الغفاري مرفوعًا: إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكًا، فصورها، وخلق سمعها، وبصرها، وجلدها، ولحمها، وعظامها، ثم قال: يا رب، أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب، أجله؟ فيقول ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب، رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده، فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص. رواه مسلم.
وفي رواية له: إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة، ثم يتصور عليها الملك...
وفي رواية أخرى: أن ملكًا موكلًا بالرحم إذا أراد الله أن يخلق شيئًا بإذن الله لبضع وأربعين ليلة... الحديث.
فهذا يدل على أن مراحل النطفة والعلقة والمضغة تحدث كلها خلال الأربعين الأولى، وهذا يتوافق مع رواية الإمام مسلم لحديث ابن مسعود، ولفظها: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك... الحديث.
وقد نقلنا في الفتوى رقم: 130939، شيئًا من بحث علم الأجنة في ضوء القرآن والسنة، الذي قدمه الشيخ: عبد المجيد الزنداني للمؤتمر العالمي الأول للإعجاز العلمي في القرآن والسنة، ومنه: بعد استعراض ما تقدم نرى أن النطفة والعلقة والمضغة تكتمل خلال الأربعين يومًا الأولى، وترى الجنين في نهاية هذه المراحل في شكل مضغة لا يدل على مخلوق إنساني، وفي اليوم الخامس والأربعين يتم تكون الأعضاء، وانتشار الهيكل العظمي بصورة ظاهرة، ويستمر الانقسام الخلوي، والتمايز الدقيق بعد ذلك، ولكن الخطوات الأساسية للتفريق بين شكل المضغة والشكل الإنساني تكتمل بين اليوم الأربعين والخامس والأربعين.
وأما مسألة وقت نفخ الروح: فليس فيها نص قاطع، والذي يمكن الجزم به من خلال حديث ابن مسعود أنه لا يحدث إلا بعد اكتمال طور المضغة، وهذا لا يكون إلا بعد الأربعين الأولى، وأما متى يكون؟ فليس الحديث نصًّا في ذلك، وقد تناول هذه القضية الدكتور: عبد الجواد الصاوي في بحثه: أطوار الجنين ونفخ الروح ـ المنشور في مجلة الإعجاز العلمي التابعة للهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة، فقال: هذه القضية كما قلنا لا يفصل فيها العلم الحديث ولكن تفصل فيها النصوص الشرعية، ولا يوجد فيما أعلم نص صريح وصحيح إلا حديث جمع الخلق الذي رواه البخاري ومسلم، وغيرهما عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق: أن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد ـ رواه مسلم، وقد اتفق علماء المسلمين أن الجنين تنفخ فيه الروح بعد اكتمال طور المضغة، بناء على هذا النص النبوي الصريح، وبما أنه قد ثبت أن زمن المضغة يقع في الأربعين يومًا الأولى، بنص رواية الإمام مسلم لحديث جمع الخلق وحديث حذيفة بن أسيد: إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون يومًا... الحديث، وتوافق حقائق علم الأجنة الحديث مع هذه الأوصاف الشرعية لأطوار الجنين، إذن فالروح تنفخ بعد الأربعين الأولى من عمر الجنين ليس قبل ذلك بيقين، لكن متى يحدث ذلك بالضبط؟ أبعد شهرين أم ثلاثة أم أربعة أو أقل أو أكثر؟ لا أظن أن أحدًا يستطيع أن يحدد موعد نفخ الروح على وجه الجزم واليقين في يوم بعينه بعد الأربعين يومًا الأولى! حيث لا يوجد ـ فيما أعلم ـ نص صحيح في ذلك. اهـ.
وراجعي الفتوى رقم: 296932.
والذي عليه أكثر أهل العلم ـ بل قد حكي عليه الإجماع ـ هو القول بأن نفخ الروح يكون بعد مائة وعشرين يومًا، وهذا مبني على ما فهموه من حديث ابن مسعود، قال ابن القيم في تحفة المودود: الذي دل عليه الوحي الصادق عن خلاق البشر أن الخلق ينتقل في كل أربعين يومًا إلى طور آخر، فيكون أولًا نطفة أربعين يومًا، ثم علقة كذلك، ثم مضغة كذلك ثم ينفخ فيه الروح بعد مائة وعشرين يومًا. اهـ.
وجاء في بحث الدكتور: محمد نعيم ياسين في مجلة مجمع الفقه الإسلامي بعنوان: حقيقة الجنين وحكم الانتفاع به في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية ـ مطلب عن وقت نفخ الروح في الجنين، قال فيه: اشتهر هذا التحديد بين العلماء المسلمين القدامى، والتزموا بما دل عليه الخبر الصحيح، وتلقوه بالقبول، ولم أعثر فيما رجعت إليه من كتب المفسرين وشراح الحديث والفقهاء، وكل من تكلم في الروح ووقت نفخها، من خرج عن ذلك التحديد، بل نقل غير واحد منهم إجماع العلماء على ذلك، وعدم اختلافهم فيه، فقال القرطبي: لم يختلف العلماء أن نفخ الروح في الجنين يكون بعد مائة وعشرين يومًا، وذلك تمام أربعة أشهر، ودخوله في الخامس ـ كما بيناه بالأحاديث ـ وعليه يعول فيما يحتاج إليه من الأحكام ـ وقال ابن عابدين: نقل بعضهم أنه اتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر، أي عقبها... ولا ينافي في ذلك ظهور الخلق قبل ذلك، لأن نفخ الروح إنما يكون بعد الخلق، وقال النووي: واتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر... وقال الأبي في شرحه على صحيح مسلم: لم يختلف العلماء في أن النفخ يكون لتمام أربعة أشهر والدخول في الخامس، وذلك موجود بالمشاهدة، وعليه يعول فيما تحتاج إليه الأحكام في الاستلحاق عند التنازع وفي وجوب النفقة على حمل المطلقة... وقال ابن رجب الحنبلي: فأما نفخ الروح: فقد روي صريحًا عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أنه إنما ينفخ فيه الروح بعد أربعة أشهر، كما دل عليه ظاهر حديث ابن مسعود، ونقل ابن حجر القول باتفاق العلماء على أن نفخ الروح لا يقع إلا بعد أربعة أشهر عن أكثر من واحد... وكل من تعرض لشرح حديث ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أخذ بالتحديد المذكور في الحديث، وحمله على ظاهره، ولم يؤوله تأويلًا آخر، ولم ينقل أي واحد من شراح ذلك الحديث قولًا مخالفًا لعالم من علماء المسلمين. انتهى.
وأما وجود نبضات للقلب قبل نفخ الروح في الجنين، فقد بيّن ذلك الدكتور محمد علي البار في بحث له بعنوان: ما الفرق بين الموت الإكلينيكي والموت الشرعي ـ حيث يقول فيه: الجنين قبل نفخ الروح فيه كانت فيه حركة النمو والاغتذاء، بل إن القلب ينبض ويعمل منذ اليوم الثاني والعشرين منذ التلقيح، وتبدأ الدورة الدموية عملها منذ تلك اللحظة، ومع هذا لم يقل أحد من علماء الإسلام إن الروح قد نفخت في هذا الجنين في هذه الفترة. انتهى.
وراجعي الفتوى رقم: 9472.
والله أعلم.