الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      أمر الخوارج

                                                                                      وفي شعبان ثارت الخوارج وخرجوا على علي رضي الله عنه وأنكروا عليه كونه حكم الحكمين ، وقالوا : حكمت في دين الله الرجال ، والله يقول : إن الحكم إلا لله [ الأنعام ] وكفروه ، واحتجوا بقوله : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ المائدة ] فناظرهم ، ثم أرسل إليهم عبد الله بن عباس ، فبين لهم فساد شبههم ، وفسر لهم ، واحتج بقوله تعالى : يحكم به ذوا عدل منكم [ المائدة ] ، وبقوله : فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها [ النساء ] ، فرجع إلى الصواب منهم خلق ، وسار الآخرون فلقوا عبد الله بن خباب بن الأرت ، ومعه امرأته ، فقالوا : من أنت ؟ فانتسب لهم ، فسألوه عن أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، فأثنى عليهم كلهم ، فذبحوه وقتلوا امرأته ، وكانت حبلى ، فبقروا بطنها ، وكان من سادات أبناء الصحابة .

                                                                                      وفيها سارت الخوارج لحرب علي ، فكانت بينهم وقعة النهروان ، وكان على الخوارج عبد الله بن وهب السبئي ، فهزمهم علي وقتل أكثرهم ، وقتل ابن وهب . وقتل من أصحاب علي اثنا عشر رجلا .

                                                                                      وقيل في تسميتهم الحرورية ؛ لأنهم خرجوا على علي من الكوفة ، وعسكروا بقرية قريب من الكوفة يقال لها حروراء ، واستحل علي قتلهم لما فعلوا بابن خباب وزوجته ، وكانت الوقعة في شعبان سنة [ ص: 280 ] ثمان ، وقيل : في صفر .

                                                                                      قال عكرمة بن عمار : حدثني أبو زميل أن ابن عباس قال : لما اجتمعت الخوارج في دارها ، وهم ستة آلاف أو نحوها ، قلت لعلي : يا أمير المؤمنين أبرد بالصلاة لعلي ألقى هؤلاء ، فإني أخافهم عليك ، قال : كلا ، قال : فلبس ابن عباس حلتين من أحسن الحلل ، وكان جهيرا جميلا ، قال : فأتيت القوم ، فلما رأوني ، قالوا : مرحبا بابن عباس وما هذه الحلة ؟ قلت : وما تنكرون من ذلك ؟ لقد رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حلة من أحسن الحلل ، قال : ثم تلوت عليهم : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده [ الأعراف ] .

                                                                                      قالوا : فما جاء بك ؟ قلت : جئتكم من عند أمير المؤمنين ، ومن عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أرى فيكم أحدا منهم ، ولأبلغنكم ما قالوا ، ولأبلغنهم ما تقولون ، فما تنقمون من ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره ، فأقبل بعضهم على بعض ، فقالوا : لا تكلموه فإن الله يقول : بل هم قوم خصمون [ الزخرف ] وقال بعضهم : ما يمنعنا من كلامه ، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدعونا إلى كتاب الله ، قال : فقالوا : ننقم عليه ثلاث خلال ، إحداهن : أنه حكم الرجال في دين الله ، وما للرجال ولحكم الله ، والثانية : أنه قاتل فلم يسب ولم يغنم ، فإن كان قد حل قتالهم فقد حل سبيهم ، وإلا فلا ، والثالثة : محا نفسه من أمير المؤمنين ، فإن لم يكن أمير المؤمنين ، فهو أمير المشركين ، قلت : هل غير هذا ؟ قالوا : حسبنا هذا .

                                                                                      قلت : أرأيتم إن خرجت لكم من كتاب الله وسنة رسوله أراجعون أنتم ؟ قالوا : وما يمنعنا ، قلت : أما قولكم إنه حكم الرجال في أمر الله ، فإني سمعت الله تعالى يقول في كتابه : يحكم به ذوا عدل منكم [ المائدة ] وذلك في ثمن صيد أرنب أو نحوه قيمته ربع درهم فوض الله [ ص: 281 ] الحكم فيه إلى الرجال ، ولو شاء أن يحكم لحكم ، وقال : وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله [ النساء ] الآية ، أخرجت من هذه ؟ قالوا : نعم .

                                                                                      قلت : وأما قولكم : قاتل فلم يسب ، فإنه قاتل أمكم ؛ لأن الله يقول : وأزواجه أمهاتهم [ الأحزاب ] فإن زعمتم أنها ليست بأمكم فقد كفرتم ، وإن زعمتم أنها أمكم فما حل سباؤها ، فأنتم بين ضلالتين ، أخرجت من هذه ؟ قالوا : نعم .

                                                                                      قلت : وأما قولكم : إنه محا اسمه من أمير المؤمنين ، فإني أنبئكم عن ذلك : أما تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية جرى الكتاب بينه وبين سهيل بن عمرو ، فقال يا علي اكتب : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك ، فقال : اللهم إنك تعلم أني رسولك ، ثم أخذ الصحيفة فمحاها بيده ، ثم قال : يا علي اكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله ، فوالله ما أخرجه ذلك من النبوة ، أخرجت من هذه ؟ قالوا : نعم .

                                                                                      قال : فرجع ثلثهم ، وانصرف ثلثهم ، وقتل سائرهم على ضلالة .

                                                                                      قال عوف : حدثنا أبو نضرة ، عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تفترق أمتي فرقتين ، تمرق بينهما مارقة تقتلهم أولى الطائفتين بالحق " . وكذا رواه قتادة ، وسليمان التيمي ، عن أبي نضرة .

                                                                                      وقال ابن وهب : أخبرنا عمرو بن الحارث ، عن بكير بن الأشج ، عن بسر بن سعيد ، عن عبيد الله بن أبي رافع ، أن الحرورية لما خرجت [ ص: 282 ] على علي ، قالوا : لا حكم إلا لله ، فقال علي : كلمة حق أريد بها باطل ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف ناسا - إني لأعرف صفتهم في هؤلاء الذين يقولون الحق بألسنتهم لا يجوز هذا منهم وأشار إلى حلقه - من أبغض خلق الله إليه ، منهم أسود إحدى يديه طبي شاة أو حلمة ثدي ، فلما قاتلهم علي ، قال : انظروا ، فنظروا فلم يجدوا شيئا ، قال : ارجعوا ، فوالله ما كذبت ولا كذبت ، ثم وجدوه في خربة ، فأتوا به حتى وضعوه بين يديه ، قال عبيد الله : وأنا حاضر ذلك من أمرهم وقول علي فيهم .

                                                                                      وقال يحيى بن سليم ، عن ابن خثيم ، عن عبيد الله بن عياض ، أن عبد الله بن شداد بن الهاد دخل على عائشة ونحن عندها ليالي قتل علي ، فقالت : حدثني عن هؤلاء الذين قاتلهم علي ، قال : إن عليا لما كاتب معاوية وحكم الحكمين خرج عليه ثمانية آلاف من قراء الناس - يعني عبادهم - فنزلوا بأرض حروراء من جانب الكوفة ، وقالوا : انسلخت من قميص ألبسك الله وحكمت في دين الله الرجال ، ولا حكم إلا لله . فلما بلغ عليا ما عتبوا عليه ، جمع أهل القرآن ، ثم دعا بالمصحف إماما عظيما ، فوضع بين يديه ، فطفق يحركه بيده ويقول : أيها المصحف حدث الناس ، فناداه الناس : ما تسأل ؟ إنما هو مداد وورق ، ونحن نتكلم بما روينا منه ، فماذا تريد ؟ فقال : أصحابكم الذين خرجوا ، بيني وبينهم كتاب الله تعالى ، يقول في كتابه : فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها [ النساء ] فأمة محمد أعظم حقا وحرمة من رجل وامرأة ، وذكر الحديث شبه ما تقدم ، قال : فرجع منهم أربعة آلاف ، فيهم ابن الكواء ، ومضى الآخرون ، قالت عائشة : فلم قتلهم ؟ قال : قطعوا السبيل ، واستحلوا أهل الذمة ، وسفكوا الدم .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية