الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى : ( وأما السجود على اليدين والركبتين والقدمين ففيه قولان ( أشهرهما ) : أنه لا يجب ; لأنه لو وجب لوجب الإيماء بها إذا عجز كالجبهة ، ( والثاني ) : يجب لما روى ابن عباس رضي الله عنهما { أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يسجد على سبعة أعضاء يديه وركبتيه وأطراف أصابعه وجبهته } فإذا قلنا : بهذا لم يجب كشف القدمين والركبتين ; لأن كشف الركبة يفضي إلى كشف العورة فتبطل صلاته ، والقدم قد يكون في الخف فكشفها يبطل المسح والصلاة ، وأما اليد ففيها قولان ( المنصوص ) في الكتب : أنه لا يجب ; لأنها لا تكشف إلا لحاجة فهي كالقدم ، وقال في السبق والرمي : قد قيل فيه قول آخر : إنه يجب لحديث خباب بن الأرت رضي الله عنه ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث ابن عباس رضي الله عنهما رواه البخاري ومسلم وقوله : قال في السبق والرمي ، يعني قال الشافعي في كتاب السبق والرمي ، وهو كتاب من كتب الأم ، ( أما حكم المسألة ) ففي وجوب وضع اليدين والركبتين والقدمين قولان مشهوران نص عليهما في الأم ، قال الشيخ أبو حامد ونص في الإملاء : أن وضعها مستحب لا واجب ، واختلف الأصحاب في الأصح من القولين فقال القاضي أبو الطيب : ظاهر حديث الشافعي أنه لا يجب وضعها ، وهو قول عامة الفقهاء .

                                      وقال المصنف والبغوي : هذا هو القول الأشهر وصححه الجرجاني في التحرير والروياني في الحلية والرافعي ، وصحح جماعة قول الوجوب ، ومنهم البندنيجي وصاحب العدة والشيخ نصر المقدسي ، وبه قطع الشيخ أبو حامد في التبصرة ، هذا هو الأصح وهو الراجح في الدليل ، فإن الحديث صريح في الأمر بوضعها ، والأمر للوجوب على المختار ، وهو مذهب الفقهاء ، والقائل الأول يحمل الحديث على الاستحباب ، ولكن لا نسلم له ; لأن أصله الوجوب ، فلا يصرف عنه بغير دليل فالمختار الصحيح : الوجوب ، وقد أشار الشافعي رحمه الله في الأم إلى ترجيحه كما سأذكره قريبا إن شاء الله تعالى .

                                      [ ص: 403 ] ثم اختلف أصحابنا في موضع القولين فقال المصنف والجمهور : في اليدين والركبتين والقدمين قولان ، ولم يفرقوا بينها ، وقال القاضي حسين : في وجوب وضع اليدين قولان ، فإن قلنا : لا يجب لم يجب وضع الركبتين ، وإلا فقولان ، ( فإن قلنا ) : لا تجب الركبتان فالقدمان أولى ، وإلا فقولان ، وذكر إمام الحرمين : أن المذهب طرد القولين في الجميع ، وأن من الأصحاب من خصهما باليدين ، وقال : لا تجب الركبتان والقدمان ، وذكر القفال في شرح التلخيص قول ابن القاص : إن في الجميع قولين ، ثم قال القفال ، قال أصحابنا : هذا غلط ، ولا يختلف المذهب : أن وضع الركبتين وأطراف القدمين واجب ، وإنما اختلف قوله في وجوب وضع اليدين ، وهذا الذي نقله القفال عن الأصحاب عجيب غريب وهو غلط بلا شك ; لأن الشافعي نص على القولين في الأعضاء الستة في الأم ، وصرح الأصحاب المتقدمون والمتأخرون بجريان القولين في الجميع ، وها أنا أنقل نص الشافعي رحمه الله من الأم بحروفه .

                                      قال في الأم : " كمال السجود أن يسجد على جبهته وأنفه وراحته وركبتيه وقدميه ، وإن سجد على جبهته دون أنفه كرهت ذلك له وأجزأه ، وإن سجد على بعض جبهته دون جميعها كرهت ذلك ، ولم يكن عليه إعادة ، قال : وأحب أن يباشر براحتيه الأرض في الحر والبرد ، ولا أحب هذا في ركبتيه ، بل أحب أن يكونا مستترين بالثياب ، وأحب إن لم يكن الرجل متخففا أن يفضي بقدميه إلى الأرض ، ولا يسجد متنعلا ، قال الشافعي : وفي هذا قولان ( أحدهما ) : لمن [ يكون ] عليه أن يسجد على جميع أعضائه التي أمرته بالسجود عليها ، [ ويكون حكمها غير حكم الوجه على أن له أن يسجد عليها كلها متغطية فتجزيه ; لأن اسم السجود يقع عليها ، وإن كانت محولا دونها بشيء ] فمن قال بهذا قال : إن ترك عضوا منها لم يوقعه الأرض ، وهو يقدر على إيقاعه لم يكن ساجدا ، كما إذا ترك جبهته فلم يوقعها الأرض ، وهو يقدر [ على ذلك فلم يسجد ] ، وإن سجد على ظهر كفيه لم يجزه [ ص: 404 ] لأن السجود على بطونها ] ، وكذا إن سجد على حروفها ، وإن ماس الأرض ببعض يديه أصابعهما أو بعضهما أو راحتيه أو بعضهما أو سجد على ما عدا جبهته متغطية أجزأه ، وهكذا [ هذا ] في الركبتين والقدمين .

                                      ( قال الشافعي ) وهذا مذهب يوافق الحديث .

                                      ( والقول الثاني ) : أنه إذا سجد على جبهته أو على شيء منها دون ما سواها أجزأه .

                                      هذا نص الشافعي بحروفه نقلته من الأم من نسخة معتمدة مقابلة ، وفيه فوائد كثيرة فحصل للأصحاب أربع طرق في اليدين والركبتين والقدمين ، والصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور ونص عليه : أن في وجوب وضع الجميع قولين وهذا الذي حكاه القفال ، وهذه الطرق الثلاثة سوى الأول غلط مخالف للحديث ونص الشافعي وجمهور الأصحاب ، وإنما أذكرها لبيان حالها لئلا يغتر بها ، ثم اختلفوا في صورة المسألة إذا قلنا : لا يجب وضع هذه الأعضاء الستة ، فقال جماعة من أصحابنا المتقدمين والمتأخرين ، منهم المحاملي في المجموع : إذا قلنا : لا يجب وضعها فمعناه يجوز ترك بعضها على البدل فتارة يترك اليدين أو إحداهما وتارة يترك القدمين أو إحداهما ، وكذلك الركبتان ، ولا يتصور ترك الجميع .

                                      وقال الشيخ أبو حامد في تعليقه والبندنيجي إذا قلنا : لا يجب وضعها فأمكنه أن يسجد على جبهته دونها كلها أجزأه ، وقال صاحب العدة مثله ، قال الرافعي إذا قلنا : لا يجب وضعها اعتمد ما شاء ورفع ما شاء ، ولا يمكنه أن يسجد مع رفع الجميع ، هذا هو الغالب والمقطوع به .

                                      ( قلت : ) ويتصور رفع الجميع فيما إذا صلى على حجرين منهما حائط قصير ، فإذا سجد انبطح ببطنه على الحائط ، ورفع هذه الأعضاء أو اعتمد بوسط ساقه أو بظهر كمه ، فإن ذلك له حكم رفع الكف كما سبق في نص الشافعي ، والله أعلم .

                                      قال أصحابنا : فإذا قلنا يجب وضع هذه الأعضاء كفى وضع أدنى جزء من كل عضو منها كما قلنا في الجبهة ، والاعتبار في القدمين ببطون الأصابع ، فلو وضع غير ذلك لم يجزئه ، ونقل صاحب البيان عن صاحب الفروع أنه إن سجد على ظاهر قدمه أجزأه والأول : أصح ، وبه قطع الرافعي وغيره ، [ ص: 405 ] والاعتبار في اليدين بباطن الكف سواء فيه باطن الأصابع وباطن الراحة ، فإن اقتصر على باطن بعض الراحة أو بعض باطن الأصابع أجزأه ، وإن اقتصر على ، ظاهر الكفين أو حرفهما لم يجزئه ، هكذا نص عليه الشافعي رحمه الله في الأم كما سبق بيانه ، وهكذا قطع به الجمهور ، منهم الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والمتولي ، وخالفهم المحاملي في التجريد فقال : الذي يتعلق به السجود هو الراحتان والصحيح الأول ، وأنه يجزيه بطون الأصابع كما نص عليه الشافعي والجمهور ; لأنه يسمى ساجدا على يديه والله أعلم .

                                      قال الشافعي والأصحاب : وإذا أوجبنا وضع هذه الأعضاء لم يجب كشف الركبتين والقدمين ، لكن يستحب كشف القدمين ويلزمه عدم كشف الركبتين ، وقد سبق دليل الجميع ، وفي وجوب كشف اليدين قولان ( الصحيح ) : أنه لا يجب وهو المنصوص في عامة كتب الشافعي كما ذكره المصنف ( والثاني ) : يجب كشف أدنى جزء من باطن كل كف والله أعلم .

                                      ( فرع ) لو تعذر وضع أحد الكفين أو أحد القدمين لقطع أو غيره فحكم المسألة كما سبق ، ولا فرض في المتعذرة ولا يجب وضع طرف الزند من المقطوعة ; لأن محل الفرض فات فلا يجب غيره ، كما لو قطعت من فوق المرفق لا يجب غسل العضد .




                                      الخدمات العلمية