الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      هذه الآية تدل على أن خلق الأرض قبل خلق السماء بدليل لفظة : " ثم " التي هي للترتيب والانفصال ، وكذلك آية " حم السجدة " ، تدل أيضا على خلق الأرض قبل خلق السماء لأنه قال فيها : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين [ 41 \ 9 ] ، إلى أن قال : ثم استوى إلى السماء وهي دخان الآية [ 41 \ 11 ] . مع أن آية " النازعات " تدل على أن دحو الأرض بعد خلق السماء ، لأنه قال فيها : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها [ 75 \ 27 ] . [ ص: 206 ] ثم قال : والأرض بعد ذلك دحاها [ 79 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      اعلم أولا أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن الجمع بين آية " السجدة " وآية " النازعات " ، فأجاب بأن الله تعالى خلق الأرض أولا قبل السماء غير مدحوة ، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبعا في يومين ثم دحا الأرض بعد ذلك وجعل فيها الرواسي والأنهار وغير ذلك ، فأصل خلق الأرض قبل خلق السماء ودحوها بجبالها وأشجارها ونحو ذلك بعد خلق السماء ، ويدل لهذا أنه قال : والأرض بعد ذلك دحاها ولم يقل خلقها ، ثم فسر دحوه إياها بقوله : أخرج منها مآءها ومرعاها الآية [ 79 \ 31 ] . وهذا الجمع الذي جمع به ابن عباس بين هاتين الآيتين واضح لا إشكال فيه ، مفهوم من ظاهر القرءان العظيم ، إلا أنه يرد عليه إشكال من آية " البقرة " هذه ، وإيضاحه أن ابن عباس جمع بأن خلق الأرض قبل خلق السماء ، ودحوها بما فيها بعد خلق السماء .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه الآية التصريح بأن جميع ما في الأرض مخلوق قبل خلق السماء لأنه قال فيها : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء الآية [ 21 \ 129 ] . وقد مكثت زمنا طويلا أفكر في حل هذا الإشكال ، حتى هداني الله إليه ذات يوم ففهمته من القرءان العظيم ، وإيضاحه أن هذا الإشكال مرفوع من وجهين ، كل منهما تدل عليه آية من القرءان :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : أن المراد بخلق ما في الأرض جميعا قبل خلق السماء : الخلق اللغوي الذي هو التقدير لا الخلق بالفعل الذي هو الإبراز من العدم إلى الوجود ، والعرب تسمي التقدير خلقا ومنه قول زهير :


                                                                                                                                                                                                                                      ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ض القوم يخلق ثم لا يفري

                                                                                                                                                                                                                                      والدليل على أن المراد بهذا الخلق التقدير ، أنه تعالى نص على ذلك في سورة " فصلت " حيث قال : وقدر فيها أقواتها [ 41 \ 11 ] ، ثم قال : ثم استوى إلى السماء وهي دخان الآية [ 41 \ 11 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني : أنه لما خلق الأرض غير مدحوة ، وهي أصل لكل ما فيها كان كل ما فيها كأنه خلق بالفعل لوجود أصله فعلا ، والدليل من القرءان على أن وجود الأصل يمكن به إطلاق الخلق على الفرع ، وإن لم يكن موجودا بالفعل .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 207 ] قوله تعالى : ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة [ 7 \ 11 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : خلقناكم ثم صورناكم بخلقنا وتصويرنا لأبيكم آدم الذي هو أصلكم .

                                                                                                                                                                                                                                      وجمع بعض العلماء بأن معنى قوله : والأرض بعد ذلك دحاها [ 79 ] ، أي مع ذلك ، فلفظة " بعد " بمعنى مع ، ونظيره قوله تعالى : عتل بعد ذلك زنيم [ 68 \ 13 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وعليه فلا إشكال في الآية ، ويستأنس لهذا القول بالقراءة الشاذة ، وبها قرأ مجاهد : " والأرض مع ذلك دحاها " ، وجمع بعضهم بأوجه ضعيفة لأنها مبنية على أن خلق السماء قبل الأرض ، وهو خلاف التحقيق منها أن " ثم " بمعنى الواو ، ومنها أنها للترتيب الذكري كقوله تعالى : ثم كان من الذين آمنوا الآية [ 90 \ 17 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية